علماء بغداد
وأما بغداد فمدينة ملك ، وليس بمدينة علم ، وما فيها من العلم فمنقول إليها ، ومجلوب للخلفاء وأتباعهم ورعيّتهم (١) ونيّتهم بعد ذلك في العلم ضعيفة ، لأن العلم جدّ ، وهم قوم ؛ الهزل أغلب عليهم ، واللعب أملك لهم ، فإن تعاطى بعضهم شيئا أو شدا منه ، فإنما همّه المساماة به وبغيته المباهاة فيه ، فترى أحدهم يتكلّم بغير علم ، ويهمز (٢) ليعدّ في العلماء ويذكر رغبته في أطراف العلم ودواوينه وفروعه وغرائبه ، ويسامح نفسه في أصوله وسهله وذلوله ، فهو يبني على غير أس ، ويحبّ الرياسة بأهون مسّ ، فلا جرم أنهم يوهمون ولا يفهمون ، ويسألون فيستبهمون!.
قال أبو حاتم : أهل بغداد حشو عسكر الخليفة ، ولم يكن بها من يوثق به في كلام العرب ، ولا من ترتضى روايته ، فإن ادّعى أحد منهم شيئا رأيته مخلطا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة ، ولا يفصل بين علماء البصرة بالنحو ، وبين الرؤاسيّ والكسائيّ ، ولا بين قراءة أهل الحرمين وقراءة حمزة ، ويتحفّظ أحدهم مسائل من النحو بلا علل ولا تفسير فيكثر كلامه عند من يختلف إليه ؛ وإنّما همّ أحدهم إذا سبق إلى العلم أن يسيّر اسما يخترعه لينسب إليه ، فيسمّي الجرّ خفضا ، والظرف صفة ، ويسمّون حروف الجر حروف الصفات ، والعطف النسق ، و «مفاعلين» في العروض «فعولان» ، ونحو هذا من التخليط.
قال اللغوي : والأمر في زماننا هذا ـ أصلحك الله ـ على أضعاف ما عرف أبو حاتم.
فهذه جملة يعرف [بها] مراتب علمائنا ، وتقدّمهم في الأزمان والأسنان ، ومنازلهم من العلم والرواية ، ويجتمع لك بها ما أزال لهجا بالتقاطه من كلامي ، وتعليقه عني عند شيء تجارينيه ، أو سبب أحكيه ؛ ولكل واحد من هؤلاء الذين
__________________
(١) بخط ابن نوبخت : «ورغبتهم».
(٢) بخط ابن نوبخت : «ويلمز».