بسم الله الرّحمن الرّحيم
صلّى الله على محمد
أمتعني الله ببقائك ، وحسن الدفاع عن حوبائك ، ووفّقك في دينك ورأيك ، وجعلك لكل خير سببا ، ورزقك إليه مذهبا.
إن اختلاف همم النفوس بحسب اختلافها في الفضل ، ومناسبتها للعلم على قدر مناسبتها للعقل ، والنفس النفيسة تتأذى بفقد العلم ، أكثر مما يتأذّى الجسم بعدم الطّعم.
وإنك ـ أعزك الله ـ شكوت إليّ دفعة بعد أخرى ، وثانية بعد أولى ، شدة تفاوت ما يصل إلى سمعك وقلبك من كلام أهل العصبية ، في المفاضلة بين أهل العربية ، وادّعاء كل قوم تقدّم من ينتمون إليه ، ويعتمدون في تأدبهم عليه ، وهم لا يدرون عمّن روى ، ولا من روى عنه ، ومن أين أخذ علمه ، ولا من أخذ منه ؛ وقد غلب هذا على الجهال ، وفشا في الرّذال (١) ؛ حتى إن كثيرا من أهل دهرنا لا يفرقون بين أبي عبيدة وأبي عبيد ، وبين الشيء المنسوب إلى أبي سعيد الأصمعي أو أبي سعيد السكّري أو أبي سعيد الضرير. ويحكون المسألة عن الأحمر ؛ فلا يدرون أهو الأحمر البصريّ ، أو الأحمر الكوفيّ. ولا يصلون إلى العلم بمزية ما بين أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيبانيّ ؛ ولا يفصلون بين أبي عمر عيسى بن عمر الثقفي ، وبين أبي عمر صالح بن إسحاق الجرمي. ويقولون : «قال الأخفش» ، ولا يفرقون بين أبي الخطّاب الأخفش وأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش البصريّين وبين أبي الحسن عليّ بن المبارك الأخفش الكوفي (٢) ، وأبي الحسن عليّ بن سليمان الأخفش بالأمس صاحب محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى ، وحتى يظنّ قوم أن القاسم بن سلام البغدادي ومحمد بن سلام الجمحيّ صاحب الطبقات أخوان.
ولقد رأيت نسخة من كتاب «الغريب المصنّف» على ترجمته : «تأليف أبي عبيد القاسم بن سلّام الجمحي» ، وليس أبو عبيد بجمحيّ ولا عربيّ ؛ وإنما
__________________
(١) الرذال : جمع رذيل وأرذل ورذال أيضا ؛ وهو الدون الخسيس.
(٢) في الحاشية عن ابن أبي الحجاج «يحقق هذا الذي ذكره ؛ فهو الأحمر لا الأخفش ؛ أعني علي بن المبارك». والصواب ما ذكره ابن أبي الحجاج ، وانظر بغية الوعاة ٢ / ١٥٨.