٣
ـ الإستقرار أعني به أن لا يكون المتصدّي لهذا الفنّ منتقل الدار ، مزعجاً
في وطنه من دار إلى دار ، ومرتحلاً من وطنه من قطر إلى قطر ، وبخاصة نقلات هذا الزمان الذي صارت فيه الكرة الأرضية غابة وحوش كواسر ، من نجا منها برأسه فقد سلم ، وأصبح الإنسان فيها من سقط المتاع . . لا حرمة ولا كرامة . والمنتقل من وطنه غريب ـ إن لم يكن متموّلاً ـ لا يجد في
البلد الجديد إلّا الصدّ والردّ ، ولا مثنوية في هذا . . ومن ذاق عرف . . وربّ سائل : ما هي حاجة المحقق إلى الإستقرار ؟ والعلم
في الصدور لا في الصناديق . . ! ؟ وفي جوابه نقول : إنّ سعة المعارف التي وصلت إليها البشرية ، ومخلّفات
السلف الضخمة وكون المحقّق مجدّداً لبناء قد تشعّث ، أو مزيناً له وقد حال عن روائه الأول ، فهو لا
شكّ محتاج إلى الآلة التي تعينه في عمله وهي آلة يشقّ معها الإنتقال . وطالب هذا الفنّ ـ حقّ الطلب ـ مولع بالكتب ، باذل ما
يضنّ به غيره في سبيل اقتنائها ـ ومن المعلوم أنّ أثمن المكتبات ما كان حصيلة عمر عالم أو باحث ـ فعلى
مرّ الأيام تتجمّع عنده مكتبة أقلّ ما يقال فيها أنّها بقدر أثاث بيته . . والكتاب
ثقيل يحتاج إلى العناية في نقله من مكان إلى مكان . وطالب هذا الفن ـ أيضاً ـ مغرم بالقراءة والتقييد
والتسجيل ، لا تكاد تمرّ به نكتة علمية إلّا ودوّنها في طواميره ، أو حزمها في أضابيره ، فتكون له من هذه
التقييدات أكوام من الجزازات ، هي خلاصة مطالعاته وزبدة ملاحظاته . ثم هو غير بالغ هذه المرتبة إلّا بعد وهن العظم واشتعال
الرأس شيباً ، وذلك الوقت من عمره مظنّة استقراره من عناء الطلب . . ومن الكدح في سبيل العيش . ومن المعلوم عند العارفين اعتذار الصاحب بن عبّاد عن
قبول منصب الوزارة في بلد غير بلده ، لأنّ مكتبته فقط تحتاج في نقلها إلى مائتي بعير . وانظر إلى من استقرّت به الدار . . كم هو محكم التحقيق
لطيف التدقيق ، واستثن من هو ملصَق بهذا الفنّ طارئ عليه .