إذن لا تسقط فائدة معرفة أسباب النزول من خلال البحث الاُصولي المذكور ، بل تتأكّد .
وثانياً : إنّ الرجوع إلى أسباب النزول قد لا يرتبط ببحث العموم والخصوص في الحكم ، وانّما يتعلّق بفهم معنى الآية وتشخيص حدود موردها وتحديد الحكم نفسه من حيث المفهوم العرفي ، لا السعة والضيق في موضوعه كما اُشير إليه سابقاً ، ولنذكر لذلك مثالاً :
قال الله تبارك وتعالى : « إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ » سورة البقرة ( ٢ ) الآية ( ١٥٨ ) .
قال السيوطي : إنّ ظاهر لفظها لا يقتضي أنّ السعي فرض ، وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيّته ، تمسكاً بذلك (١٨) .
ووجه ذلك أنّ قوله تعالى : « لَا جُنَاحَ » يدلّ على نفي البأس والحرج فقط ، ولا يدلّ على الإلزام والوجوب ، فإنّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لكونه أعمّ منه ، فكلّ مباح لا جناح فيه ، والواجب ـ أيضاً ـ لا جناح فيه ، لكنّ فيه إلزام زيادة على المباح ، ومن الواضح أنّ العامّ لا يستلزم الخاصّ .
لكنّ هذا الإستدلال بظاهر الآية مردود ، بأنّ ملاحظة سبب نزولها يكشف عن سرّ التعبير بـ « لَا جُنَاحَ » فيها ، وذلك : لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يضعون صنمين على الصفا والمروة ، ويتمسّحون بهما لذلك ، ويعظّمونهما ، وكان المسلمون بعد كسر الأصنام يتحرّجون من الإقتراب من مواضع تلك الأصنام توهّماً للحرمة ، فنزلت الآية لتقول للمسلمين : إنّ المواضع المذكورة هي من المشاعر التي على المسلمين أن يسعوا فيها فإنّها من واجبات الحجّ ، وأمّا قوله تعالى : « لَا جُنَاحَ » فهو لدفع ذلك التحرّج المتوهَّم .
فهذا الجواب يبتني على بيان سبب النزول كما أوضحنا ولا يمسّ البحث الاصولي المذكور بشيء .
وقد أورد السيوطي في « الإتقان » أمثلة اُخرى ، ممّا يعتمد فهمُ الآيات فيها
____________________________
١٨ ـ المصدر السابق ( ج ١ ص ١٠٩ ) .