للفظ لا وصف قبح. فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل : «إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين من غير تفصيل» ثم يستطرد ابن الأثير فيقول : «ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه. ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه ، وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه فأقول : إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين ، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة ، لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم ، وإنما كانت مألوفة في الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها ، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا ... فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه ، فحسن الاستعمال سبب استعمالها دون غيرها ، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها ، فالفصيح إذن من الألفاظ هو الحسن».
«فإن قيل : من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه ، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟.
قلت في الجواب : إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها ، لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات ، فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن ، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ، ويكره صوت الغراب وينفر عنه ، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟».
«والألفاظ جارية هذا المجرى ، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة (١) والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع ،
__________________
(١) المزنة : السحابة ذات الماء.