وغابت الحجج بعده واشتدّت البلوى على بني إسرائيل حتّى ولد يحيى بن زكريا وترعرع ، فظهر وله تسع سنين فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيّام الله عزوجل ، وأخبرهم أنّ محن الصالحين إنّما كانت لذنوب بني إسرائيل وأنّ العاقبة للمتّقين ، ووعدهم الفرج بقيام المسيح بعد نيف وعشرين سنة من هذا القول ، فلمّا ولد المسيح أخفى الله ولادته وغيّب الله شخصه ؛ لأنّ مريم لما حملته انتبذت به مكانا قصيا ، ثمّ إنّ زكريا وخالتها أقبلا يقصّان أمرها حتّى هجما عليها وقد وضعت ما في بطنها وهي تقول : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (١) فأطلق الله تعالى ذكره لسانه بعذرها وإظهار حجّتها ، فلمّا ظهر اشتدّت البلوى والطلب على بني إسرائيل وأكبّ الجبابرة والطواغيت عليهم حتّى كان من أمر المسيح ما قد أخبر الله تعالى به.
واستتر شمعون بن حمون والشيعة ، ثمّ أفضى بهم الاستتار إلى جزيرة من جزائر البحر فأقاموا بها ففجّر الله لهم فيها العيون العذبة ، وأخرج لهم من كل الثمرات وجعل لهم فيها الماشية ، وبعث إليهم سمكة تدعى القمل لا لحم لها ولا عظم وإنّما هي جلد ودم فخرجت من البحر ، فأوحى الله عزوجل إلى النحل أن يركبها فركبها فأتت بالنحل إلى تلك الجزيرة ، ونهض النحل وتعلّق بالشجر فعرس وبنى وكثر العسل ، ولم يكونوا يفقدون من أخبار المسيح شيئا (٢).
فقد روي أنّ له غيبات يسيح فيها في الأرض فلا يعرف قومه وشيعته خبره ، ثمّ ظهر فأوحى إلى شمعون بن حمون ، فلمّا مضى شمعون غاب الحجج بعده واشتدّ الطلب وعظمت البلوى ودرس الدين واميتت الفروض والسنن ، وذهب الناس يمينا وشمالا لا يعرفون أيّا من أي ، فكانت الغيبة مائتين وخمسين سنة (٣).
وعن الصادق عليهالسلام : كان بين عيسى وبين محمّد خمسمائة عام ، منها مائتان وخمسون عاما ليس فيها نبي ولا عالم ظاهر. قيل : فما كانوا؟ قال : كانوا متمسّكين بدين عيسى (٤).
__________________
(١) مريم : ٢٣.
(٢) بطوله في كمال الدين : ١٥٩ ح ١٧ ، وبحار الأنوار : ١٣ / ٤٤٩.
(٣) كمال الدين : ١٦٠.
(٤) كمال الدين : ١٦١.