ودغل لم نر مثله قط ، فأخذنا في السير حتّى عجزنا وتدلّت ألسنتنا على صدورنا من العطش فأيقنّا بالموت وسقطنا لوجوهنا ، فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض قد نزل قريبا منّا وطرح مفرشا لطيفا لم نر مثله تفوح منه رائحة طيبة ، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض وعلى رأسه عمامة له ذؤابتان ، فنزل على ذلك المفرش ثمّ قام فصلّى بصاحبه ثمّ جلس للتعقيب فالتفت إليّ وقال عليهالسلام : يا محمود. فقلت بصوت ضعيف:لبّيك يا سيدي. قال : ادن منّي. فقلت : لا أستطيع لما بي من العطش والتعب. قال عليهالسلام : لا بأس عليك. فلمّا قالها حسبت كأن قد حدثت في نفسي روح متجدّدة فسعيت إليه حبوا فأمرّ يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فرده حتى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي وذهب ما بي وعدت بما كنت أولا. فقال عليهالسلام : قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل. وكان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة ، فقسمها نصفين وناولنيها وقال عليهالسلام : كل منها فأخذتها منه ولم أقدر على مخالفته وعندها أمرني أن آكل الصبر لما عهد من مرارة الحنظل ، فلمّا ذقتها فإذا هي أحلى من العسل وأبرد من الثلج شبعت ورويت ، ثمّ قال لي : ادع صاحبك فدعوته فقال بلسان مكسور ضعيف : لا أقدر على الحركة. فقال عليهالسلام : قم لا بأس عليك ، فأقبل حبوا وفعل معه كما فعل معي ثمّ نهض ليركب ، فقلنا : بالله عليك يا سيدنا إلّا ما أتممت علينا نعمتك فأوصلنا إلى أهلنا. فقال : لا تعجلوا وخط حولنا برمحه خطّة وذهب هو وصاحبه.
فقلت لصاحبي : قم بنا حتّى نقف بإزاء الجبل ونقع على الطريق فقمنا وسرنا وإذا بحائط في وجوهنا فأخذنا في غير تلك الجهة فإذا بحائط آخر وهكذا من أربع جوانبنا فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا ثمّ قلت لصاحبي : ائتني من هذا الحنظل لنأكله فأتى به فإذا هو أمرّ من كلّ شيء وأقبح فرمينا به. ثمّ لبثنا هنيئة وإذا قد استدار بنا الوحش ما لم يعلم إلّا الله عدده وكلّما أرادوا القرب منّا منعهم ذلك الحائط فإذا ذهبوا زال الحائط وإذا عادوا عاد قال : فبتنا تلك الليلة آمنين حتّى أصبحنا وطلعت الشمس واشتدّ الحرّ وأخذنا العطش فجزعنا أشدّ الجزع وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس ، فلمّا أراد مفارقتنا قلنا له : بالله عليك إلّا أوصلتنا إلى أهلنا فقال : أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ، ثمّ غابا فلمّا كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا ومعه ثلاث أحمرة قد أقبل ليحتطب فلمّا رآنا ارتاع منّا وانهزم