وراء العلامات ، أما داخلها فإن سعدا ترك فناء (والمقصود خلاء عاريا) للمسجد والقصر (١). هناك إشارة وحيدة إلى الأعمدة وهي قول البلاذري في الكتاب نفسه : «وكان زياد يقول : أنفقت على كل أسطوانة من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة ومائة» (٢). لكن لا بد من الانتباه إلى أنه يذكر في رواية أخرى أن اقتطاع أساطين الحجر من جبل الأهواز جد من أجل مسجد البصرة وفي فترة متأخرة نسبيا (٣). أما ياقوت ، فكان واضحا في هذا الموضوع ، فقال إنه وقع جلب الأعمدة من الأهواز وصنعها ، في ولاية زياد (٤). إن كلّ ما أوردناه لا يناقض سيفا بصفة واضحة لا مراء فيها ، ويبقى نصّ سيف من أكمل مصادرنا ، إنّما يدب فينا الشعور بأن زيادا هو الذي منح المسجد جهازه المعلمي من كل الوجوه. أما العنصر الوحيد المؤيد لرواية سيف فهو أن المرحلة الأولى بالنسبة للمسجد كما بالنسبة للقصر كانت تحت تأثير الحيرة ، في حين أن مرحلة زياد كانت فارسية بدون ريب. لو أضفنا إلى كل هذا ما هو معروف عن البصرة ، وأن هناك شعورا ضعيفا بالهندسة المعمارية العظيمة عند العرب ، وهو افتراض صحيح ، لرجحنا ليس فكرة انعدام أي بناء للمسجد زمن سعد ، إنّما فقدان بناء شامل للمسجد يطمح إلى العظمة والاكتمال والانسجام المعماري.
القصر :
لنبدأ باستفهام علم الآثار. فهو يشهد بوضوح ، كما مر بنا ، على وجود مستوى سبق العصر الأموي ، دون أن نعلم هل أن العصر الأموي يبدأ مع زياد أو مع عبد الملك ، لأن المصادر المكتوبة تؤكد أن الخليفة عبد الملك هدم كل شيء وأعاد بناءه بعد ثورة مصعب (٥). فيمكن لذلك أن توافق الفترة الأولية ما قام به زياد كما قد توافق ما قام به السابقون له. لكن من هم؟ سعد أم المغيرة؟ لم يتحدث سيف عن المغيرة إطلاقا.
تؤكد الحفريات الأثرية أن المستوى الأول يشهد بآثار خاصة بأسس وحدة أصلية واحدة ، كانت مربعة الشكل بقياس ٩٥ ، ١١٣ مترا على ٨٦ ، ١١٣ مترا (٦). إنها أسس لاسوار مهدومة ، لكن يظهر أن البنائين اللاحقين عادوا إليها ليشيدوا فوقها أسوارا جديدة ،
__________________
(١) فتوح البلدان ، ص ٢٧٥.
(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٧٥. لا يتكلّم البلاذري عن أساطين ولا عن أي بناء زمن سعد.
(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٧٦.
(٤) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.
(٥) البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ٦٦ وما بعدها.
(٦) محمد علي مصطفى ، مرجع مذكور ، ص ٦٠.