إن رغبته في إبراز خصوصية المدينة الاسلامية تنتهي به إلى حرمانها من أي طابع إسلامي (١). يمكن تلخيص مظاهرها المميزة فيما طرأ على المخطط من قلب عجيب ، وفي ظاهرة الزقاق غير النافذ ـ وهي خاصية لتنظيم المجال تعكس سلوكا معينا للجماعات البشرية ـ «لا نجدها في مدن العصور القديمة الكلاسيكية ولا في مدن العهد الأوروبي الوسيط» ، وتكون مشتقة من الشرق القديم ، ومن هذه المظاهر أيضا الدار ذات الصحن الداخلي ، وهي إرث شرقي ، والتنوع الإثني للاحياء وبالخصوص وجود السوق. ويرى قيرث أن الخاصيات الأربع الأولى ليست ابتكارات إسلامية ، بل هي عناصر شرقية لا تتميز إلا بالنسبة للتقليد الكلاسيكي أو الأوروبي ، والسوق فقط إبداع ثقافي إسلامي (٢). على أن «السوق (البازار) بصفتها مركزا تجاريا يعمل بمقتضى مبادىء اقتصادية عقلانية ، هي مؤسسة لها أضعف الصلات بالاسلام كدين» ، يقول قيرث مسترسلا في تفكيره دون حرج ، جامعا بين الأفكار الاستشراقية المسبقة والفرضيات المسبقة كما يجدها عند قيبر (٣). ليست هذه المدينة إسلامية لأن أغلب خاصياتها مستمدة من المدينة الشرقية. فهل نسميها لذلك شرقية؟ لا ، حيث «إذا اعتمدنا الآثار المادية والتوثيق المختص بهندسة العمارة ، فإنه يبدو معقولا العدول عن عبارة (مدينة شرقية)» وأخيرا فإنها ليست مدينة عربية (٤). إنها مدينة بدون اسم ، لا ترتبط بأية حضارة معينة. ويختم قيرث تدليله دون أن يستنتج فكرة ما ، لأنه بقي حبيس تصوراته الذهنية ، فهو يرى جيدا أنه حتى بإسناده عناصر شكلية إلى التسلسل الشرقي فإنه يستحيل ، من الوجهة الأثرية ، مماثلة هذه المدينة الفاقدة لكل اسم بالحاضرة الشرقية. الحقيقة أن نقطة الضعف تكمن بالنسبة لكل هذه المساعي ومنها مسعى قيرث كما مسعى من سبقه وبسبب مفارقة هائلة ، في التصور المسبق العنيد للاسلام كدين صرف وجديد إطلاقا ، ويكاد أن يكون مثاليا ، وفي أنه قام بداهة على أرضية تاريخية ملموسة مزجها ، وشكلته هي بدورها. وجملة القول ، يكمن هذا الضعف في العمى تجاه الامتدادات والانقطاعات التي تؤسس مجرى التاريخ بالذات.
انطلق المحللون من هذا الوضع ، فجمعوا الفرضيات والمتناقضات ، إضافة إلى إصدار أحكام قيمية ضمنية وصريحة. ومن الغريب أن قيرث أعلن أن العصور الكلاسيكية
__________________
(١)» Die Orientalische Stadt «,op.cit.,p.٧٨.
(٢)» Zum Problem des Bazars ـ ـ ـ «, Der Islam, ٢٥) ٥٧٩١ (, p. ٩٣;» Die Orientalische Stadt «, Saecu ـ Lum, p. ٣٨.
(٣)» Villes islamiques, villes arabes, villes orientales «, op. cit., p. ٨٩١.
(٤) Ibid.,p.٨٩١.