المالكة وكانت من المناذرة ، لأسباب تبقى مجهولة لدينا إلا أن المؤرخين القدامى ربطوا هذا القرار بالدور الذي قام به عدي بن زيد الشاعر (١). كان عدي ذا حظوة في بلاط الساسانيين ، ويعتقد أنه أنقذ السلالة اللخمية لما أجلس على العرش النعمان الذي كان في حمايته. وقد أثارت حظوته الخاطفة في الحيرة الحفائظ والدسائس. فاغتيل ، وقرر الإبن الأخذ بثأر أبيه فأثار كسرى على النعمان الثالث. وأظهر النعمان العصيان وطورد من أجل ذلك إلى قبيلة طيّ التي رفضت مساعدته ، ثم دخل في ذمة هانىء بن قبيصة من ذهل بن شيبان من بكر ، فكانت حمايته له ناجعة ، مما أدى إلى نشوب المواجهة في ذي قار ، التي صمد فيها العرب حتى النصر. لكن هذا لم يحل دون طرد المناذرة عن الحكم ، وألحقت مملكة الحيرة إلحاقا كان مقنّعا ثم صار مباشرا. وبالفعل ولّي عربي هو أياس بن قبيصة الطائي على ثغر العرب ، ومن المحتمل أن الأمر تم له بعنوان الولاية لا بصفته ملكا. وخلفه أزاذابه بن ماهان الفارسي طيلة سبعة عشر عاما ، منها أربعة عشر عاما وثمانية أشهر في حكم كسرى أبرويز (٢). وبذلك نصل إلى سنة ٦٣٠ م / ٨ ه. وصارت الوضعية عندئذ غامضة. فظهر أحد أحفاد الأسرة المالكة سابقا وهو أحد المناذرة الذي اشتهر باسم الغرور عند العرب ، وانتهى أمره مقتولا في البحرين (٣).
وها أن الحيرة تبرز في ضوء التاريخ الإسلامي ، بمثابة الجزء المركزي من الأيام التي حدثت سنة ١٢ ه. وأنشئت إلى جانبها الكوفة بعد خمس سنوات ، رمزا وموطنا للعروبة الجديدة التي برزت مع الإسلام ، وكانت عروبة مغايرة كل المغايرة لتلك التي جسمتها الحيرة طيلة ثلاثة قرون.
الواقع أن انهيار حكم المناذرة لا يكشف عن تناقض سياسة كسرى الثاني فقط ، حتى ولو دلّ على مدى الخفة الذي بلغه عسف هذا الملك. إذ إن حالة الحيرة التي صار الولاة يتقاذفونها في آخر طورها ، تعكس تفكك السلطة الساسانية ذاتها. ولا فائدة من التعرض للأسباب العميقة للأزمة التي مرت بها الامبراطورية الفارسية. على أننا نلاحظ ما هو ماثل للعيان وهو ما لاحظه المؤرخون العرب أنفسهم. كان العهد الطويل الذي قضاه في الحكم كسرى أبرويز (٥٩٠ ـ ٦٢٨) ، بمثابة الكارثة من وجوه عدة : اكتناز المال بصورة لا تصدق ، وشطط جبائي وتجاوزات من كل قبيل ، وحروب مرهقة مع بيزنطة (٤). فضلا عن أن الهوس
__________________
(١) الطبري ، التاريخ ، ج ٢ ، ص ١٨٨ ، وما بعدها ؛ الأغاني ، ج ٢ ، ص ١٠٠ وما بعدها ؛ المسعودي ، مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٢٢٣ وما بعدها.
(٢) الطبري ، التاريخ ، ج ٢ ، ص ٢١٣.
(٣) المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٢١٣.
(٤) الطبري ، التاريخ ، ج ٢ ، ص ٢١٦.