الصبغة العسكرية والصبغة البدوية ، ولا نعلم عنها إلا القليل. وتكون الكوفة إذّاك في هذه المرحلة الانتقالية السريعة جدا ، منظمة حسب تنظيم مرن للمعسكر ولكن دون صرامة الجيوش خلال الحرب ـ وكيف يكون الأمر مخالفا لذلك على أرض عراء؟ ـ وأيد عمر المشروع ، ثم تمّ تجاوز هذه الصيغة عاجلا إذ ظهرت رغبة ملحة في الاستقرار ، أبداها المقاتلة ، فحل دور التخطيط سريعا.
على أنه لا يمكن التحدث بالنسبة لهذه المرحلة الأولى المحددة زمنيا ، عن إرادة تعمدت «إنشاء» معسكر ، بل كانت إرادة في إقرار جموع المهاجرين على المكان ، أي على الأراضي التي استولوا عليها ، بمقتضى عدة خيارات أساسية هي : التجمع والقرب من بلاد العرب. أما الأمور الأخرى ، أي صيغة المجموعة السكنية ، فقد ترك الأمر لرغبات القاعدة. وصادف أن اختارت صيغة التجمع المدني ، أي تجمع المجال المبني المهيىء الوظيفي المتلاصق الذي يكون ملكا لهم ولا يصطبغ بصبغة حضارة أخرى. يجب التشديد على تسجيل هذه الرغبة في التخلي عن نمط حياة الترحال ، وهذه الجاذبية القوية نحو الاستقرار ، وهما خاصيتان تظهران عند المهاجرين في كل العصور. إنها الحاجة الكبيرة إلى الهدوء والمشاركة الاجتماعية. وبهذا فإن عمر لم يرد «إنشاء» معسكر أو مدينة ، بل كان «يشير» فقط (كلمة شعبان جاءت في محلها هذه المرة) (١) ، بنقطة للاستقرار والتجمع ، على أناس حرضهم على الرحيل خارج بلاد العرب ، فما لبثوا أن اختاروا الإطار المديني. وسواء أكانت مادة البناء المستعملة آجرا ـ وهذا كان تقليديا في بلاد الرافدين ـ أم قصبا ، فذلك أمر لا يهم كثيرا. المهم أن تعوض هذه المادة الخيمة ، فتشكل رمزية الاستقرار. لكن الأهم من ذلك هو أن يأتي التخطيط بعد تقرير البناء ، ويتضمن التخطيط جيدا فكرة ال» Planning «أي صورة المدينة المرسومة على الأرض ، حتى لو رفضنا أن العرب بكّروا بالبناء الصلب ، وأنه وجب ترقب ولاية المغيرة بضع سنوات أخرى. وقد اتفقت المصادر إما على طرح تزامن التمصير والتخطيط وإما على أسبقية التمصير على التخطيط بصورة طفيفة ، وهو رأي سيف الذي أضاف فكرة البناء بصفة قطعية. وتوحي لنا المصادر أيضا بتصور إرادة واضحة صادرة عن سعد ومستشاريه : منهم أبو الهيّاج الأسدي ، ونصارى الحيرة ، وبعض الفرس. فتم على الأقل تحديد المركز السياسي الديني طبق تقنية معينة ، وأحيط بخندق ، وأقرّت حول ذلك العشائر والقبائل. ووضع داخل المركز مركّب المسجد والقصر ، مع أنه كان بدائيا ، وإن لم يشيد أو أن بناءه كان متواضعا. وهكذا وضعت الأجهزة الأساسية للمصر وتحددت نهائيا طبق توجيهات دقيقة : إنه خلق لا مراء فيه تم عمليا من أول وهلة. وسوف تمتلىء الكوفة
__________________
(١) أمير المؤمنين ـ» first counsellor «، في :.Islamic History ,p.٧٥