بهذه الخلفية ، لفهم ما كان عليه الوضع في ذلك العصر ، وما حدث بعد ذلك.
تعددية الشرق ووحدته. إرث العصر الاول
يشتمل هذا الشرق المعتمد في وصف الحاضرة الاسلامية ، وعكسه ، على العصر المتقدم جدا ، مقر الديمومة الطويلة ، مؤسس النماذج ومنها أكملها تعبيرا ، أي بابل الآخرة ، ويشتمل أيضا على الفترة الأخيرة التي دشنها الغزو الفارسي. على أن ما يلاحظ على الصعيد الجغرافي هو ما اتصفت به مصر من خصوصية ونوع من انقسام داخل الشرق المركزي ، بين عالم الشام الأكثر جدة والذي يتقبل كل ما يرد عليه ، وعالم بلاد الرافدين العريق في القدم ، وهو مهد تهيأ فيه النموذج الشرقي.
لنتمعن في الشرق المركزي القديم ونقارنه بمصر. قيل إن مصر كانت تنعم بالراحلة وتوحي بالأنس ، وتحب الحياة إلى حد أنها تمد يدها في الموت. كان محيطها أقل شدة من محيط بلاد الرافدين ، فشيدت حواضر مفتوحة فاقدة للأحزمة المحصنة وفي عصر متأخر. وقبل أن تشرع مصر في بناء المدن ، كانت لا تتوقف عن تشييد المقابر التي كانت أعمق رمز للطموح المصري (١).
أما في بلاد الرافدين ، وهي عالم الآلهة المرعبة الكونية ، وأرض أنشأت المدن كمراكز للعظمة والحرب ، فقد كان أسلوب الحضارة المدنية متميّزا بالترتيب والقمع الشديد والنظام والتخطيط والمركزية. فما كان قانون حمورابي سوى تنظيم دقيق للعلاقة البشرية بكيفية تكاد تكون بوليسية؟ «كانت المدينة سجنا يضيّق الحراسة على سكانه» : هذا رأي لويس ممفورد Lewis Mumford (٢).
فمن المعقول بعد هذا ، أن نقبل بثنائية النماذج الأصلية. لقد أمكن للنموذج الفرعوني أن يؤثر في الحضارة المينويةminoenne ثم على أسلوب المدينة الاغريقية (٣) وتمادى
__________________
(١) L.Mumford ,pp.٥٠١ ـ ٢١١.
(٢).Ibid.,.p.١١١. كتب ممفورد صفحات جيدة حيث كانت توصف أرض الرافدين بأنها أم المدن في كل صفحة : op.cit.pp.٤٥ ـ ٣٧ ، وتعرض إلى صلات المدينة بالحرب في بداية نشوئها ، ومظهرها المرضي التقهقري الذي فرضه طوق التنظيم والارهاب ، طبق نموذج «خلية النحل». وقد استوحى رأيه من Hocart ولا سيما من.Henri Frankfort
(٣) يعترف هيرودوتس بالتأثير المصري في تكون الحضارة الاغريقية. فكان متقدما على المؤرخين الغربيين في القرن التاسع عشر ، وهم المتمسكون بالطابع الفريد للهلينية ، كإسقاط حقيقي للمركزية الأوروبية. وكان M.Jastrow أول من قال بفرضية تأثير سومر وبابل في الأسطورة والعلم اليونانيين : The Civilzation of Babylonia and Assyria, Philadelphia, ٥١٩١ ، وهو ما سمي بالنظرية البابلية الشمولية أو.Panbabylonisme