الحقيقة أن بابل ليست سوى الوجه الرمزي للشرق. وإن أتينا على ذكرها ، فإنما ذكرا للمدينة الشرقية بصفتها تصورا متماسكا للمجال ، وتقليدا ما زال حيا. وهناك نقطتان تسمحان بتثبيت آرائنا في هذا الموضوع ، هما قضية المركز وقضية السكك.
تحدث وولي Wooley عن مساحة مقدسةTemenos مخصصة للمعبد منذ أن ظهرت المدينة السومرية (١). لكن أوپنهايم Oppenheim (٢) زاد الأمر توضيحا في مثل هذا الميدان الذي بقي من أكثر الميادين غموضا وتضاربا ، فهو يرى أنه لم يوجد «مركز للمدينة بالمعنى المضبوط يتشكل من القصر والمعبد وساحة السوق» في السهل الغريني لبلاد الرافدين أي بلاد بابل بل إنه يوجد خلافا لذلك فاصل دال بين المعبد والقصر فتتركز حياة القصر بالأبواب (قارن بباب المدينة المستديرة حيث مقام الخليفة) (٣). لكن ينبغي استثناء بابل العصر الكلداني حيث تمت الصلة بين القصر والمعبد بتأثير آشوري. فاتضح أن هذه الصلة التي جعلت من ذينك العنصرين وحدة مدنية مركزية هي ظاهرة مصدرها أعلى بلاد الرافدين ، وأن مفهوم القلعة آشوري النشأة. هناك المعبد والقصر ملتحمان ماديا ويقعان في سياج محاط بسور وحيد (٤) ، طاردا الدور إلى الخارج ، ما عدا بعض المساكن التي كانت تسد الفجوات بالداخل ، والتي أتاحت لهذا المركز أن يعرف باسم المدينة ـ القلعة. وما يلفت النظر أن نبوخذنصر حاكى النموذج الآشوري المختلف كثيرا عن النموذج البابلي القديم ، لكنه فعل ذلك وصححه تصحيحا كبيرا تمثل في عدم ارتباط القصر بالمعبد ارتباطا مباشرا (٥).
توجد وجوه شبه تفرض نفسها على الذهن ، عند المقارنة بالكوفة ، لكن ينبغي الإحتياط في ذلك. نلحظ بالكوفة تمييزا بين المركز السياسي الديني والمحيط الصالح للسكن ، ووجود مركّب يشمل المسجد والقصر مشكّل لوحدة فريدة مترابطة ماديا وتكون إذن بحسب النمط الآشوري. لكنّ هذا المركز لم يشكل قلعة في العصر الأول حيث لم يشيد أي سور ، ولا حتى في العصر الأموي حيث حصل فعلا تحصين للمسجد والقصر ، إلا أنه كان لكل منهما سور خاص به. إن المساحة العمومية كما أوضحناها كانت تشمل الأسواق والرحبة والآري. وكان يحدها في بداية الأمر خندق ، لكنها لم تحظ بسور أبدا ، إذ لو كان لها هذا الحزام لاكتست طابع المدينة ـ القلعة ، مثلما كانت بغداد في عصر المنصور. وحين عزم
__________________
(١) في أور :.History of Mankind ,I ,p.١٢٤
(٢) Ouvr.cit.,pp.٢٤١ ـ ٦٤١.
(٣) «كان للأبواب ... وظيفة أخرى هي وظيفة «المركز» : M.Rutten ,pp.٨٣ ـ ٠٤ ;Oppenheim ,p.١٤١
(٤) لم تتم فقط إزاحة الفصل بينهما ، بل إنهما «شكلا وحدة مدنية تحتل موقعا مركزيا» :.Oppenheim ,p.١٤١. على أن القلعة في آشور ذاتها كانت جزءا من التحصينات.
(٥) كان القصر يقع على السور ، في حين أن معبد مردوك كان في المركز :.Oppenheim ,p.٦٤١.