امبراطوريتهم بقي وسيبقى الشام ، إلى أن يحين وقت سقوطهم (١). أما بخصوص بلاد الرافدين ذاتها ، فالسؤال المطروح والواجب طرحه وصوغه كما يلي هو : إلى أي حد تسرب التأثير الهلينستي بدءا بدائرة الحياة المدنية؟ هل خلف آثارا باقية؟ من اليسير الإحاطة بهذا المشكل ، لكن الإجابة المرضية غير ممكنة إلا إذا استعرضنا الخلفية التاريخية لما كان عليه الاستيطان الهلينستي في الشرق.
خلافا للعرب والفرس ، المجاورين مباشرة للشرق الواقع بين الشام وبلاد الرافدين ، فإن السلوقيين وهم المتعلقون عاطفيا بالهلينية ، لم يعتمدوا على الشعب اليوناني ككل للامساك بزمام امبراطوريتهم الشاسعة. وربما لأنهم لم يجدوا يونانا بجوارهم ، أو مقدونية ، ولم يعتمدوا إلا على مجموعات مهاجرة صغرى (٢) ، فقد لجأوا إلى إنشاء المدن (Poleis) حيث أقروا عناصر يونانية مقدونية. كانت نقطا يستندون إليها ، وجزرا للهلّينية تدعم هيمنتهم. وهكذا فإن ما بذلوه من جهود جبارة في إنشاء المدن يدخل ضمن خطة سياسية مهيأة (٣) ، أكثر مما يتعلق الأمر بميل إلى التمصير يجب ترضيته ، أو حتى مشروع حضاري ، كما ارتآه مدّاحو الهلينية من النمط القديم ومنهم جونزJones (٤). وهذا لا محالة هو وضع كل مشروع امبراطوري ، بما في ذلك الاتساعية الامبراطورية العربية ، لكنّا نجد هنا امبراطورية بعيدة عن قواعدها البشرية. إن ما يلفت النظر عند الرجوع إلى خارطة المنشآت الهلينية ، هو كثرتها في آسيا الصغرى والشام حيث يمكن ذكر انطاكية العاصمة السياسية ، وآفامية المركز العسكري ، وسلوقية في بياريا ، واللاذقية مقر التجارة ، لكي ندرك ما كان من قوة للاستقرار المدني (٥). وقد توسعت الشبكة في بلاد الرافدين وامتداداتها إلى الجنوب ، وقلّت كثافة الحضور الهلّيني ، وتناقص عمقه أيضا. وقد ذكرنا أن بابل اصطبغت بالصبغة الهلينية السطحية في عصر متأخر ، وخلافا لذلك فإن سلوقية تحولت إلى مركز نشيط للهلينية الشرقية. فكانت مقرا للحاكم العام بمنطقة الشرق ، وأشرفت هكذا على الميدان الإيراني كله. كانت حاضرة مركزية حقيقية (٦) عامرة بعدد مهم من السكان الذين كانوا خليطا من
__________________
(١) Rostovtzeff ,I ,p.٧٣٤.
(٢) The Cambridge ـ ـ ـ ,VII ,p.٧٥١.
(٣) Ibid.,p.٧٥١.
(٤) Jones ,op.cit.,pp.١٣ ,٢٣. حيث يقول أن الشرقيين كانوا يريدون استيعاب الهلينية لأنهم كانوا «خجلين» من ثقافتهم «المتأخرة العتيقة».
(٥) The Cambridge ـ ـ ـ ,VII ,pp.٧٥١ ـ ١٦١.
(٦) Caetani, Annali, III, ٢, p. ٦٣٨; The Cambridge ـ ـ ـ , VII, pp. ٧٨١ ـ ٨٨١; Pigulevskaja, pp. ٢٦ ـ ٣٦. وقد اعترضت هذه الأخيرة عن حق على الفكرة القائلة بأن هناك أفولا تاما بعد سنة ١٦٥. أما كتاب