ـ ١٤ ـ
قوّة الماضي :
الارث العربي القديم
يبدو لنا أمرا بديهيا أن كل ما من شأنه أن يشكل تكوّن الحضارة العربية الإسلامية وهياكلها ، ينبغي أن يعتمد قطبين ، على الأقل خلال الأربعة أو الخمسة قرون الأولى من فترة الانطلاق. أما القطب الأول فهو العالم الشرقي الخارجي حيث تطورت هذه الحضارة ، وأما القطب الثاني فهو عالم العروبة الداخلي الذي منه تحدرت. لقد سبق أن ألمحنا إلى النقطة الأولى ، وها نحن نشرع الآن في فحص الموضوع الثاني.
لقد نزعت لفترة طويلة الرؤية التقليدية الأوروبية والإسلامية معا إلى تصور الحضارة العربية ـ والمدنية أيضا ـ وكأنها منبثقة مباشرة ومكتملة من بلاد العرب لكي تفرض وجودها على العالم الشرقي ، في حين أن المعرفة الأوروبية ، وبدرجة أقل الصورة الذاتية التي كوّنها العرب المحدثون ، قد تطوّرت منذ حوالى قرن في اتجاه يبرز المؤثرات الخارجية غير العربية ، سواء كانت نصرانية في المجال الديني ، أم فارسية في المجال الحضاري ، أم هلينية وهندية في المجال الثقافي. وعلى هذا النحو تمّ تفضيل عمل المحيط على عمل المعطى الوراثي. ولعلّه ينبغي اعتبار هذا الأمر عزما على التقليل من الحصيلة العربية الأهلية أو على حل الغيرية العربية الإسلامية ، من وجهة النظر الأوروبية. أما من الوجهة العربية الحديثة ، حيث يبقى التصوّر القديم مهيمنا لا محالة ، عند ظهور اغراء الاتجاه الإيراني والبابلي والهليني ، فذلك دون شك استجابة لرغبة ترمي إلى إخراج الكيان العربي الإسلامي من عزلته التاريخية وإنقاذه من «الهمجية» ليصار إلى ربطه بتقاليد ثقافية كبرى ، وتبرير وجوده ، ومنحه عزة. إنما لم يمر وقت طويل على اتجاه البحث التاريخي من جديد وبمنظورات مغايرة تماما ، في طريق تعمل على تحليل الواقع العربي الجاهلي بغية مزيد من الإحاطة بتولد الإسلام على الصعيد الديني كما على صعيد مؤسسات الاجتماع والدولة. ألم يكن الرسول قرشيا نشأ وترعرع في بيئة مكة قبل كل شيء؟ ألم تكن الدولة بالمدينة دولة عربية قبل كل شيء؟ وهل