كانت بلاد العرب تتّصف بالفوضى كما قيل؟ ألم يكن فيها مدن ، وتيارات للمبادلات ، ومؤسسات وسلوك أخلاقي (Ethos) ، وديانة موحدة أو تكاد؟ وحين تشكلت بعد ذلك الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية ، فهل كان كبار المؤسسين الثقافيين حقا من الموالي والعجم قبل غيرهم ، وأن الثورة العباسية كانت من فعل فرس خراسان؟ لقد تأثر البحث من الجانب العربي قطعا بتيار القومية. ولما تقنع بقناع الايديولوجيا ، فقد نزع إلى تيار عروبي تاريخي شمولي ، حين أراد مثلا تعريب تاريخ الشرق كافة منذ البداية. أما من الجانب الغربي فكان الأمر يعني فتح اتجاهات جديدة للبحث ، جرى إهمالها لحدئذ ، أو صرفها حكم مسبق معاد للعرب. ولذا فهي اتجاهات تمر عن طريق رد الاعتبار للعالم العربي القديم ، لكن ذلك يدل بالخصوص على شاغل العلمية أكثر ما يكون حدة ووضوحا. وكأن هذا الأمر بمثابة العودة إلى بديهية الأشياء وبساطتها. وتبرز هذه البديهية بقوة كبيرة في كل ما يمس الإسلام الأول : أي تولد الرسالة ، وبناء الدولة في المدينة ، والهياكل القبلية ، والنزاعات السياسية التي وجدت في القرن الأول الهجري. أما بخصوص بنية المدن العربية خارج بلاد العرب ويعني ذلك عنصرا من عناصر الحضارة المادية والإنسانية أيضا ، فإن النّسب يردّ إلى المهد الأصلي ، ويمكن أن يظهر أكثر إبهاما وأكثر عرضة للتقييم ، لكنه لا محالة نسب ثابت مبدئيا. كان للعرب مدن في شبه الجزيرة منذ القديم ، وبالأخص قبيل ظهور الإسلام : كانت بعض هذه المدن قد اندثرت مع العرب الأوائل ، وكانت هناك مدن باليمن والحجاز والمدن الثغور في الشمال والشرق. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كانت هذه المدن تظهر بمظهر ثانوي في الوجود العربي ـ وهو مشكل مطروح فعلا ـ إلى جانب الظاهرة الرعوية مثلا. في حين أن الدولة والحضارة والقوة كانت متمركزة في بلاد الرافدين بالمدينة. أما من حيث حجم النمو والإشعاع فبالإمكان مقارنة الكوفة والبصرة وبغداد ببابل ونينوى والمدائن ، أكثر من أن تقارن بصنعاء ومكة والمدينة. لكن هل يقضي الحجم على الشكل وأكثر من ذلك على الجوهر الثقافي ، ولا سيما في المرحلة الأولى حيث لم تنفصم الوشيجة بالوطن الأم ولم يتسن امتصاص النماذج الأجنبية سريعا. لقد أشرنا إلى فرضية بقاء المعسكر البدوي ضمن بنية قطائع العشائر السكنية ، بمعنى تأثير خاصية للتجمع غير المدني على بنية مدنية. وهو دليل على أهمية الخلفية العربية كافة ، لا المدنية فحسب ، لمزيد من ادراك تولد الكوفة. فإذا كان هنا مبرر وفائدة في إبراز العناصر الأساسية لميراث الشرق بصفته بيئة استقبلت الكوفة ، فلا أقل من البحث عما يمكن أن تكون العوالم العربية المختلفة المتوالية أو المتجانبة ، قدمته في مجال التقاليد المدنية أو طرائق التجمعات البشرية ، كمعنى نوعي للمجال ، وكتجربة أو مؤسسات ، حتى من وجهة المنطق الثقافي الأكثر انغماسا ، في الأولى زمنيا من الحواضر العربية الكبرى.