لقد صنعت المدن الظاهرية التاريخية عند العرب مهما كانت هذه المدن منتساة ، قليلة العدد في خضم عالم البدو. أما الزاد الثقافي ، فمصدره المادة البدوية ، وهو في آن مقبول ومرفوض ، محمود وممقوت.
التلاحم بين المدن والقبائل :
يتعارض هذا التصور بشدة مع تصور الحضارات المستقرة ، حيث يتبين أيضا في هذا المقام أن المدن تستمد مادتها البشرية من معشر الفلاحين ولا تقتبس منهم قيمها الثقافية الواعية. تحتفظ المدن باحتكار المجال الثقافي في حين أن بقاء القبيلة أساسي في عالم البدو. ولكن القبيلة تتميز كوحدة ممتلكة لكيان ذاتي ، الأمر الذي يفسر عدوانيتها الثقافية. فهي تعمل وكأنها كائن سياسي قائم لا محالة على مبدأ آخر غير مبدأ الدولة. وتفرز في ذاتها قاعدة للسلطة ، وفكرة السلالة في البيت ، وتمييزا اجتماعيا بين الأشراف والضعفاء. في القبيلة هناك كهان ، وأسياد (١) ، وحكام النزاعات ، وخطباء وشعراء ، ونواة للفروسية ، وأخيرا حماية كل أفراد القبيلة من الاغتيال بواسطة مؤسسة الأخذ بالثأر. أما بنية القبيلة من الداخل فهي عبارة عن مجتمع سياسي أي منظم. وهي مهيكلة أيضا تجاه الخارج بقدر ما تسير كوحدة متجانسة ، ولا سيما في الحرب. لعلّ هذا ما يفسر أن بلاد العرب (٢) ـ باستثناء حالة اليمن القديم خاصة ـ لم تقدر أو لم ترد أن تتحد بصورة عفوية تحت راية مبدأ الدولة ، حيث كانت تتركب من أجهزة سياسية تكيفت مع واقع البيئة. وعبثا جرت محاولات بواسطة بلاد العرب لبسط النظام الملكي. وقد وجب أن يظهر الحدث الإسلامي كظاهرة استثنائية لترتفع بلاد العرب إلى الحياة التاريخية لكن بصورة جعلت المغامرة تتجاوز سريعا جدا إطارها ومصيرها. مع العلم أن الإسلام نتاج الحياة المدنية. وهذا دليل على أن المدينة وحدها وربما نوعا واحدا من المدينة ، كفيل بتصور المصير السياسي الذي يتجاوز آفاق القبيلة. لكن بمساعدة الحدث الديني وبفضل التلاحم الذي كان قائما عند ظهور الإسلام بين المدينة والقبيلة ، أي عالم الحضر وعالم الترحل أو ما شابهه.
لقد كان هذا التلاحم موجودا منذ البداية ، لكنه تأكد بواسطة التجارة والدين. لا
__________________
(١) الأشراف هم فئة اجتماعية داخل قبيلة ، ونادرا ما يعنون القبائل المحاربة المعارضة بمجملها للقبائل الأخرى ، كما يؤكد ذلك دونر : F.Donner ,The Early Islamic Conquests ,p.٠٣. الذي يستعير تفسيره من مادة سرجانت :.Serjeant ,» Haram and Hawtah «,p.٠٢ حول هذا الموضوع المراجع كثيرة. راجع بنحو خاص : ابن الكلبي ، كتاب الأنساب ، م. الإسكوريال ، أوراق ١٣ ، ١٦ ، ٢٥ ، ٢٧ وما بعدها ؛ ابن حبيب ، المحبّر ، ص ١٦٤ ، ١٨١ ، ٢٩٦ ـ ٣٠٣ ، وأسماء المغتالين من الأشراف ، نوادر المخطوطات ، ٦.
(٢) Lammens, L\'Arabie Occidentale avant l\'he ? gire, pp. ٦٠١ ff.