سيحدث ذلك في المستقبل بأماكن أخرى ، ضمن العلاقات القائمة بين الرحل والحضر.
وهكذا كانت المدينة قادرة على الدفاع عن نفسها فعلا. إذ كانت تختزن العدوانية القبلية ، وكانت تحتفظ لحدئذ بالخصال القتالية ، متفوقة على الآخرين بفضل دبلوماسيتها واشعاعها الاقتصادي ، فكانت تسحر الألباب بقدرتها على التنظيم. أما القبيلة ، فلم توفق أبدا في مواصلة الجهد الحربي الطويل النفس. فكانت عدوانيتها تتجه بالأحرى إلى قبائل أخرى ، الأمر الذي نتج عنه التلاحم بالمدينة التي تفصلها عنها مسافة الاحترام. إنه احترام يعود دون شك إلى زمن بعيد ، إلى التقليد الموروث عن تاريخ الشرق كافة ، الذي فرض المدينة كمركز للسلطة والقدسية والحضارة من بابل إلى اليمن. وهو الذي كان يغذي عند القبائل شعورا بالنقص ومطلب التلاحم على الرغم من قوتها الحربية. حتى ولو أن يثرب لم يمكنها الادعاء بأية هيبة ناتجة عن التجارة والدين ، فقد كانت تساندها قدرتها على المبادلات المغتذية من زراعتها ، وعلى هذا فقد كانت تؤكد هي أيضا ضرورة وجودها تجاه عالم الرحل المحيط بها. فنجم عن ذلك ارتباط عدة جموع بها ، كجهينة ومزينة بصلات الحلف الشاملة أو الشخصية (١). ولذا سوف ينتقل التلاحم في بداية ظهور الإسلام كما انتقلت الصلة الممتازة بين قريش وكنانة. وسوف تبرز عند قيام الخطط الأولى بالكوفة والبصرة (أهل العالية) (٢). كان للروح التعاقدية من عميق الرسوخ في حياة الحجاز في العصر الجاهلي وربما في بلاد العرب كلها ، ما جعلها تفرض وجودها حتى على الفارق الديني والعرقي ، كما تشهد بذلك عرى الولاء الشديدة المفعول ، التي كانت تربط اليهود بالأنصار (٣).
الحقيقة أن الحجاز كان بعيدا من مناطق القبائل الكبرى الراعية للإبل في وسط بلاد العرب وشرقها ، مثل تميم وأسد وطي وبكر. أمّا القبائل الشديدة المراس بالحرب المقيمة في الشام ـ جذام وبلي وكلب ـ فكانت تعيش تابعة للغساسنة أو للدولة البيزنطية ، وكانت متجذرة في عالم آخر. على أن تميما كانت تشرف على شعائر الحج (٤) فكانت مسؤولة عن
__________________
(١) ابن اسحاق ، السيرة ، ص ٤٣٤ ، ٤٨٥ ـ ٥٠٦ ، ٦٠٩ ـ ٦١٠ ، ٧٧٥. اتحدت جهينة مع الخزرج في معركة بعاث ، واتحدث مزينة مع الأوس كما قال واط :.Mahomet a ? Me ? dine ,p.٦٠١ ووضع الأنصار ومزينة بالكوفة في الخطة نفسها : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.
(٢) كانت كنانة والأحابيش تشكلان مع جديلة قيس سبعا ضمن الأسباع الأولى بالكوفة وقد انضم إلى ذلك عناصر من قريش دون شك : الطبري ، ج ٤ ، ص ٨٤. ويوجد في البصرة بخمس أهل العالية ، مزينة وثقيف وخزاعة وقريش الخ ... صالح العلي ، التنظيمات ، ص ٣١٨ ـ ٣١٩.
(٣) كانت قينقاع حلفاء للخزرج وقريظة موالي الأوس : السيرة ، ص ٦٨٨. لقد حشد عبد الله ابن أبي لقائده قينقاع ، في حين الخزرج استاؤوا لتقتيل بني قريظة ، فحاولوا كل سبيل لإنقاذهم ، وهي معروفة لأبي لبابة ، السيرة ، ص ٦٨٦ ـ ٦٨٧.
(٤) Kister ,» Mecca and Tamim «,pp.٦٤١ ff.