حماية الأسواق حول مكة وفي الحرم نفسه ، ولعلها انتسبت إلى الحمس (١) عن طريق بعض عشائرها. وبما أن كلبا كانت متحالفة مع تميم ، فقد انضمت إلى سلسلة التحالفات القرشية الخاصة بالتجارة الكبرى (٢) ويبدو جيدا أن خثعما وطيا وحدهما لم تعترفا بقدسية الحرم في شبه الجزيرة ، باستثناء اليمن الذي بقي عالما منفردا (٣). وهكذا كانت علائق التبادل والتحالف والحماية بين قريش وعالم الرحل ، تمتد إلى ما وراء الحجاز ذاته. لم تكن العلائق القائمة بين المدن والقبائل علائق قوة ولا حتى هيمنة ، بالمعنى الواسع. لكن فيما يخص الحيرة ربما كان لقبائل الرحل شعور بالسيطرة كما يرى كيستر (٤). لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لمكة حيث يمكن في رأيي الحديث عن نفوذ أدبي على أقصى تقدير. لكن هذا النفوذ الأدبي عرف كيف يستند إلى قدرة عسكرية قابلة للحشد. وعند قدوم وقت القتال ـ وهو أمر استجد بالنسبة لشبه الجزيرة تأييدا للرسول أو ضده في البداية ، ثم لفرض نظام الدولة على بلاد العرب كلها ـ فإن العنف المنظم كان مصدره المدن ، لا كإفراز عفوي ، بل بمفعول إرادة عليّة. لقد استندت القوة الضاربة للرسول نفسه إلى التلاحم القائم بين العالم القبلي والنواة الحضرية (٥) ، وكما وقع في الماضي القريب زمن التلاحم بخصوص الحيرة والغساسنة. وهكذا تحافظ المدينة على قدرتها التنظيمية المحركة لمادة الرحل وتؤسس هذه القدرة على الوحدة الواقعية والكامنة لعالم بلاد العرب ؛ إنها وحدة موضوعية قامت على اللغة والقيم والدين ـ دين العرب (٦). وهي الوحدة التي وقع الإصرار على التكتل بها ولو بصورة غير كاملة ، غير التلاحم القائم بين المدن والقبائل.
إنّما لا يجب أن ينسينا هذا التلاحم الانفصام الأساسي لنمط العيش ، حيث أن المدينة تظهرل في آن كمكسب للإنسان ، وكناقل للعالم الخارجي التاريخي. والأمر الجديد أن هذا الانفصال كان الشعور به في الماضي البعيد بمثابة التعارض الذي لا يمكن التغلب عليه ، وأنه جرى التخفيف منه خلال فترة ما قبل ظهور الإسلام مباشرة ، بفضل المدن الجديدة بالحجاز.
__________________
(١) Ibid.,p.١٤١ ، اعتمد كيستر المحبر لابن حبيب. إلا أننا لا نجد في أي مرجع آخر ، لا في السيرة ، ص ١٢٧ ـ ولا عند ابن سعد ، الطبقات ج ١ ، ص ٧٢ ، ولا في كتاب البلدان للجاحظ ، أو تحقيق العلي ص ٤٦٧ ، ذكرا لعشائر تميم في أهل الحمس.
(٢) Kister ,op.cit.,p.٨٢١.
(٣) الجاحظ ، كتاب الحيوان ، ج ٧ ، ص ٢١٦ ـ ٢١٨. وقد أضاف عشائر قضاعة.
(٤) Kister ,op.cit.,pp.٥١١ ـ ٦١١
(٥) رأي عبر عنه بوضوح ابن اسحاق في وصفه لجيش الرسول في وقعة الحديبية : «المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب» : السيرة ص ٧٤٠ ؛.M.Watt ,Mahomet a ? Me ? dine ,pp.٢٠١ ـ ٣٠١ إن القبائل التي التحقت حقا بصف الرسول قبل مد الرحل الكبير ، كانت جهينة ومزينة وغفار وأسلم وخزاعة.
(٦) Kister,» Some reports concerning Mecca «, Studies, p. ٨٦; Von Grunebaum, art. cit., p. ٥١