مثل مكة والطائف (١) وسدوم (٢) ونينوى (٣) أيّ مدينة أخرى كبيرة أو صغيرة. أما في أقدم الروايات التاريخية العربية فقد حافظت هذه الكلمة على هذا المعنى : فالقرية هي المدينة (٤) ، وأهل القرى هم سكان المدن ولا سيما مكة ويثرب والطائف ويقابل القاري بالبادي (٥). وحتى نعت قروي كان يعني مدنيا في الأصل (٦).
أما كلمة مدينة ، فقد وردت في القرآن بصيغة مدائن في الجمع واستعملت مفردا دلالة على يثرب (٧) ، وقد وردت أيضا اسما للجنس (٨). وينبغي ترقب القرن الثاني لكي تعود إلى السطح التسمية في عبارة مدينة السلام ، ونهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث ، لكي يبرز بوضوح مفهوم المدينة ، في بغداد كما في الكوفة ، بصفتها تمييزا للمركز المدني الأصلي المحاط بسور عن الأرباض ، وعن الامتدادات خارج السور (٩). وباستقراء معاجم الفصحى التي دوّنت الأصول القديمة ، نجد أن كلمة مدينة لا تطابق قطعا تصور المدينة الحديث ، بل لها مفهوم «الحصن الذي يبنى في أصطمة الأرض» (١٠). وهي كلمة تشمل أيضا الأرض نفسها. ورأيي أن كلمة مدينة ربّما تعني حصنا أو بصورة أدق المدينة ـ الحصن ، وكذلك فهي مدينة بها حصن أو بناءات محصنة. كانت تلك صفة المدينة المستديرة ، وكذلك وضع يثرب المدرعة في داخلها بالأطم. ولم يكن الوضع كذلك بالطائف وهي «قرية» وعرفت بهذا النعت ، لكنها أحيطت بسور. ولذا فإن قرية ومدينة لم تتميزا من حيث الحجم ، بل بالوظيفة ونمط التمدن ؛ فللمدينة اتجاه دفاعي ، وهذه هي نوعيتها ودورها ، خلافا للقرية التي تجسم الخيار المدني المعتاد ، ولا سيما الخيار المدني والتجاري والديني وخيار التجمع البشري الكثيف. وهنا تكمن مفارقة نظرا لقلب الدلالة في الكلمتين ، مع أن كلمة
__________________
(١) «القريتين» : القرآن ، سورة الزخرف ، ٣٠.
(٢) القرآن ، سورة الأنبياء ، ٧٤.
(٣) القرآن ، سورة يونس ، ٩٨.
(٤) راجع الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٩٨.
(٥) لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ١٧٨.
(٦) المرجع نفسه ، ج ١٥ ، ص ١٧٨.
(٧) القرآن ، سورة التوبة ، ١٠١ ـ ١٢٠ ؛ وسورة الأحزاب ، ٦٠.
(٨) بالمعنى نفسه ، الذي «لقرية» فيما يظهر ، وهو المعنى الوارد بالآية ١٣ والدال على المكان عينه : القرآن ، سورة يس ، ٦٠. وقد سها بوهل عن ذلك ، كما سها عنه أن القرآن استعمل مرارا لفظة يثرب وليس مرة واحدة كما يقول :.F.Buhl ,art.» Al ـ Madina «,E.I. / ١
(٩) راجع فيما بعد ، ص ٣١٢.
(١٠) لسان العرب ، تحت مادة «مدينة» ج ٥ ، ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣ حيث ذكر ما يلي : «الحصن في أصطمّة الأرض» ، «كل أرض يبنى بها حصن في أصطمّاتها فهي مدينة». بخصوص أصطمّة راجع تاج العروس ، ج ٨ ، ص ٣٦٧.