في صنعاء خلال الفترة التي سبقت الإسلام مباشرة.
كانت صنعاء مدينة قائمة بذاتها آنذاك وكانت عاصمة «للأبناء» ولهمدان وأنصارهم أو حلفائهم (١). كانت صنعاء مبنية بالحجر أصلا (٢). ولها حصن عظيم هو غمدان (٣) الذي هدمه الفاتحون المسلمون. وقد ورد ذكر جبّانتها وبيعتها وأسواقها وقصورها (هل كانت قصورا بالمعنى المعهود الآن أم حصونا؟) وكذا رحبتها (٤). لقد أنشأها السبئيون في البداية عندما كانوا على قاب قوسين من الأفول (٥). لكن لا شك أنها احتفظت بما يمكن الاحتفاظ به من الطموح التمدني والمعماري لليمن القديم ، وأن هذا الإرث انتقل إلى الكوفة ، الإرث الذي اقتبس الحجاز قسطا منه فيما بعد. وزيادة على اقتباس الجبّانات لا شك في أن دور طبقة الأشراف قد استوعبت النموذج اليمني مع أن اليمن قلّد في العصر الإسلامي الكلاسيكي النموذج العراقي المتكامل بعملية مد حضاري يستند إلى فكرة الوحدة الثقافية المنبثقة عن المركز أي دار الخلافة ، كما حصل في صنعاء باستبدال الحجر بالآجر المطبوخ والجبس (٦). بداية من أي تاريخ قامت دور الأشراف بهذا الاسترجاع الحضاري؟ منذ عصر زياد وما تلاه وعلى الأرجح في زمن الجيل الثاني من المهاجرين ، حين بدأت ترتسم استعادة الهوية اليمنية ، تلك الهوية التي اصطبغت بالطابع الخرافي والتي ضوعفت بميل جديد إلى الطلاوة. وبينما رمت العاطفة اليمنية المشوبة بالشعور النّضاح بالعز بقواها ، خلال النصف الثاني من القرن الأول في النزاعات السياسية التي نشبت في الشام بالقيام ضد قيس والتي كانت السلطة الأموية تحركها (٧) ، فقد اندفعت هذه العاطفة بالكوفة في المشروع الشيعي الناشىء ، كما أنها عبّرت عن ذاتها في الأعماق وبصفة خجولة من خلال وعي حضاري مواجه للجفاء البدوي ، جفاء تميم وأسد (٨). وهكذا عاد الإنشقاق القديم إلى السطح بقوة.
__________________
(١) الرازي ، مرجع مذكور ، ص ٣٧.
(٢) ابن رسته ، الأعلاق ، ص ١٠٩ ، وهو يقول بالحرف الواحد : «أكثر بنائها بالجص والآجر وسائرها حجارة منهدمة» وواضح أن الحجارة المنهدمة هذه من بقايا الماضي بينما يكون الجص والآجر مستوردا من الأنماط السائدة في الحضارة العربية الإسلامية بدءا من القرن الثاني ومرجعها العراق.
(٣) الرازي ، ص ٢٠ ـ ٢٦ ؛ مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٢٠٨.
(٤) الرازي ، ص ٧٧ ، ٧٩ ، ٩٠ ، ٩٦ ، ٥٩ ، ٣٥.
(٥) C.Robin ,ouvr.cit.,p.٢١٢.
(٦) ابن رسته ، الأعلاق ، ص ١٠٩.
(٧) H.Kjai ? t ,art.cit.,pp.١٧١ ff.
(٨) المرجع نفسه ، ص ١٧٤ وما بعدها ؛ الرازي ، ص ٦ ؛ ابن سعد ، الطبقات ، ج ٦ ، ص ٢٧٨ ، الذي ذكر أن ابراهيم النخعي كان يستنكف من بقاء العادة البدوية بالكوفة التي أبقت على الشعر الطويل المكشوف والمضفور ـ وكان يتحدّث إبراهيم عن جفاء أسد وتميم. ونرى على العكس أن الشعبي ، المرجع نفسه ، ص ٢٥٢ ، كان يتعمم «بعمامة حمراء» من صنع يمني. ويجب التذكير بأهمية الصناعة اليمنية خاصة في السلاح والنسيج وبقائها باليمن وخارجه في الكوفة مثلا ـ مدة طويلة ، مثلا في القرن الرابع : البغدادي ، الخزانة ج ١ ، ص ٣٨٢. وهو دليل على استمرار إحدى قواعد الحضارة اليمنية القديمة. إن هذه الحضارة لم تتغذ من تجارة البخور فحسب ، لكن من الصناعة والزراعة المائية أيضا. إنما من الممكن أن تكون الصناعة نتاج تطوّر متأخر بالنسبة للتجارة.