بصدد السباحة في الخيال بل أن هناك أرضية من الواقع نقف عليها. لكنه يجول بنا على هواه ، ويتحول بنا من اليمين إلى الشمال ، ثم يدور بنا نصف دورة ، ويتركنا متعطشين للتعرف على الأماكن. لقد قال الكثير عنها ولم يقل ما به يشفي غلتنا. والمفارقة هي أنه يحثنا على النزوع إلى الاستماتة في البحث الطوبوغرافي لكونه يقول الكثير ولا يقول ما يغني. هذا ميل مشروع ضروري وغير مجد في آن. أليس الأساس أن نفهم حقيقة بنية المدينة وسير أجهزتها؟ وألا يكون مما لا طائل من ورائه للتعمق في المعرفة أن نتأكد أن السبخة كانت تقع في الشمال الشرقي لا في الشمال الغربي؟ هذا صحيح دون شك ضمن مشروع شامل للفهم الوظيفي. وليس بصحيح ، إذا اعتمدنا منظور إدراك الملموس حيث يريد المرء معرفة طريقه لا أن يعطيه ظهره. وهناك حقيقة أصلية للأماكن تجعلها حيث هي لا في موضع آخر. وما نستفيده من التمعن في هذه الروايات أنها تتيح بعض الفرص لإدراك هذه الحقيقة ـ ولعلنا نتيه ـ وتفتح لنا آفاق شاسعة لروح الأماكن ، وترسم لنا دون شعور منها الرسم الجانبي للشخصية الجسدية للكوفة في حياتها الملموسة أكثر ما تكون نصاعة : نحن لا نتحرك في المجردات بل نحافظ على حد أدنى للاتجاه ، مثلنا مثل مسافر متعجل نزل بمدينة يجهلها ، وقام بجولة فيها ، بحيث يمكن لنا التعمق في التخطيط والاجتهاد في معرفة سكة معينة ، أو التشبع بجو المدينة دون النظر لأي تخطيط ، أو الانتقال من النظر إلى التخطيط إلى تأمل المحيط. إن مصادرنا تمدّنا بالاختيار نفسه. وشعورنا بصحبة أبي مخنف شعور مزدوج مرير : شعور بتقدمنا الكبير وشعور بتعثرنا التام. وما قدمه بخصوص جولته عبر المدينة يسمح لنا برؤية كل شيء مع أننا لن نقدر على الرجوع إلى الفندق لو كان علينا الذهاب إليه بمفردنا.