انتقلت عصبية أهل البصرة بكل عنفها إلى خراسان نتيجة استبقاء الوظيفة الحربية بهذه المواجهة (١). وكان لأهل الشام أيضا مواجهتهم بشمال سورية وبأرمينية وبعد قليل بالجزيرة : مدرسة حربية ، عصب للقوة الضاربة ولكن أيضا وللسبب نفسه بؤرة أساسية للاضطراب ، هكذا كان دور المواجهات. فلا عجب إن وجدت الثورة العباسية موقع اختيارها بخراسان ، كما أنه من المتوقع بعد هذا أن تجري المعركة الحاسمة بين مقاتلة خراسان الثائرين وبين جيش الشام الذي تحوّل مع مروان بن محمد إلى جيش الجزيرة.
كيف يمكن لمثل هذا التحوّل المتجذر بقوة في منعرج الثمانينات أن يتجسّم في مصير مدينة كالكوفة؟ بتزايد الصفة المدنية أي بمظهر مدني (خلافا للعسكري) يتأكد أكثر فأكثر ويصاحب الهدوء الصبور الذي خيّم على الكوفة بعد إعراضها عن الصراعات السياسية باستثناء فورات لا طائل من ورائها تجدّ كل عقدين. فكانت بالبصرة ثورة ابن المهلّب وهي إعادة لثورة ابن الأشعث ، ونشبت بالكوفة ثورة زيد بن علي (١٢٢ ه) ، وهي بمثابة الصورة المجددة لحركة مسلم بن عقيل وحركة المختار.
ساد جوّ من السلم الداخلي على الأوضاع اذن ، وعاد النشاط الاقتصادي إلى سالف عهده ، بل هو شهد توسعا ملحوظا في السواد وبالكوفة ذاتها أيام ولاية خالد القسري (١٠٥ ـ ١٢٠) (٢). وعادت إلى النشاط المسالك التجارية القديمة بعد عاصفة الفتح ، وظهرت مسالك جديدة (في اتجاه بلاد العرب خاصة). وبصورة عامة ، فقد اتسع حجم المبادلات في كافة المستويات. وبدأت الامبراطورية الإسلامية قاطبة ، تستفيد من توحيد المساحات الذي حققته ، ومن اتساع فضاءاتها واختلافها (٣). لقد رقّ الاستهلاك وتنوّع وتزايد.
أما على الصعيد الطوبوغرافي ، فقد تمخض عن هذه الأمور كافة بناء الأسواق في الكوفة خلال ولاية القسري ، ولعبت دار الرزق دورا تجاريا جديدا ، واتسعت المبادلات بحيث شملت الكناسة.
وبقي أن نضيف نقطتين إلى هذه الصورة الأولية : إحداهما ترجع للديموغرافيا ، والثانية تستهدف الإشارة إلى أن الكوفة استردت دورها المركزي ضمن جهاز الامبراطورية وزاد التحامها بمحيطها.
__________________
(١) الطبري ، ج ٧ ، في عدة صفحات Shaban ,Abbasid Revolution ,pp.٤١١ ff ;
(٢) أنساب الأشراف ، مخطوطة باريس ـ السليمانية ، ورقة ١٨٧ و ١٨٨ و ١٨٩ و ١٩٠.
(٣) صالح العلي ، مرجع مذكور ، ص ٢٢٣ ـ ٢٣٤ ؛ الزبيدي ، مرجع مذكور ، ص ١٥٧ ـ ١٦١ خاصة.