الآخر للنمو الديموغرافي الذي لم يعد يرتبط عائقه الرئيس بالحرب ، بل بالعمل الهدام المتأتي من الطاعون المتكرر ولا سيما الطاعون الجارف الذي حدث في سنة ١١٦ ه / ٧٣٤ (١).
فهل أن استرداد الكوفة لموقع مركزي يعود إلى هذا التطور السريع المتسق ، وإلى تهدئة النزاعات ، ولكونها نسجت صلات متينة بمحيطها ، وخلافا لذلك لكون أهل البصرة مارسوا نشاطهم في بلاد بعيدة (خراسان والسند)؟ لقد بدأت الكوفة تفقد هذا الموقع منذ سنة ٣٠ ه حيث سبقتها البصرة إلى الاستيلاء على خراسان ، ذلك البلد الغني المبشر بخيرات لا متناهية. ثم ظهرت فترة مجد في عصر علي ، تجسم في انتصاره على أهل البصرة في وقعة الجمل ، فأصبحت الكوفة عاصمة للخلافة ، وتجسمت إرادة الكفاح والهيمنة في معركة صفين. وقد دفعت الكوفة ثمن ذلك بعد مدة قصيرة حيث أن معاوية وزيادا فضلا البصرة التي انفتحت لهجرة كبيرة جدا (٢). وعلى ذلك نجد معلومات المصادر عن عصر زياد تدل على تفوق واضح للبصرة. لم تعد الكوفة عندئذ تشكل سوى ثلثي مداخيل البصرة وعمرانها (٣) ، وهذا انقلاب يسترعي الانتباه عندما نتذكر البداية المتواضعة لهذا المصر. ثم استمرت البصرة في التطور السلمي في حين أن الكوفة عاشت المآسي تلو المآسي. إن زيادا والحجاج أيضا وحتى الوالي الذي ولاه ابن الزبير ، وقد أشرفوا على العراق كافة ، استقروا بالبصرة ولم يوجهوا إلى الكوفة سوى خليفة لهم لا غير (٤). إلا أنهم أقاموا بالكوفة بصورة منتظمة والتحقوا بها كلما فرض الوضع ذلك.
أما في عصر ابن هبيرة ، وخالد القسري ، ويوسف بن عمرو ، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز فقد صار الوالي يقيم بالكوفة أو الحيرة إذا لم يكن موجودا بواسط (٥). وهكذا غادر يوسف اليمن إلى الكوفة خصيصا لعزل خالد وتولي الأمر مكانه (٦) ، وأعد العدة لقمع ثورة زيد وهو في الحيرة (٧). ويبدو أن ابن عمر أقام بالكوفة والحيرة أيضا (٨). وبعد مدة ، أمر
__________________
(١) الطبري ، ج ٧ ، ص ٩٣. انتشر هذا الطاعون في العراق والشام ، وقد تضررت منه واسط أكثر من غيرها. وقد تفشى طاعون آخر قبل ذلك في الكوفة عام ٤٩ ه : الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٣٢.
(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٧٣. أدى ذلك إلى إعادة توزيع وتقسيم العطاء.
(٣) انظر ما سبق.
(٤) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٣٤ : كان زياد يقيم بالتناوب ستة أشهر في كل مصر.
(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٠.
(٦) المرجع نفسه ، ص ١٥١.
(٧) المرجع نفسه ، ص ١٨٠ ـ ١٨٦.
(٨) المرجع نفسه ، ص ٣١٧.