الآخر أي إلى الجبانات والصحارى والأفنية والرحبة والسكك ذاتها ، التي حفظت للمدينة بنية منفتحة فسيحة بعيدة كل البعد عن صورة المدينة الإسلامية في العصور الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية (القرن ٣ ـ القرن ٨ ه).
الواقع أن الاستمرارية تظهر في أغلب المنظر المدني وأغلب علاماته. فعند مطالعة الروايات الخاصة بزيد بن علي ، تعود بنا الذاكرة إلى أماكن عهدناها هي جبانة سالم ، والصائديين أو الصوداويين (من أسد) ، والكناسة ، والجبانة ، وجبانة مخنف ، وجبانة كندة ، واستمرت الدور القديمة قائمة وهي تحمل أسماء مؤسسيها : دار خالد بن عرفطة ، ودار عمرو بن حريث ، ودار عمر بن سعد. وكلها تعيد إلى الأذهان أن عصر الإنشاء والتشييد الحقيقي هو عصر جيل الفتح ومن جاء بعده ، وهم الذين طبعوا بطابعهم أسماء المكان. لكن السلالات تبقى وتستمر لدى الأشراف ، وهذا ما يفسر أن الدور حافظت على وظيفتها الأولى ، باستثناء دار الوليد بن عقبة ، التي تحولت إلى دار للقصارين (١).
لم يخل الأمر من إضافات وابتكارات كبناء الأسواق ، والقنطرة ومصلّى خالد ، وكنيسة أم خالد ، ودور سوق الرقيق الذي صارت تقوم به دار الرزق ، وتأكيد الوظيفة التجارية والثقافية للكناسة. وتزايد عدد الحمامات ، وتطوّرت المناطق المجاورة ، وزاد الارتباط بالحيرة بصفة واضحة. إن هذه المنشآت والأدوار الجديدة طبيعية في مدينة فتية لم تنه بعد تشييدها الذاتي ، ضمن حضارة جديدة تتشعب ، وتدقق معرفتها لحاجاتها ، وتستوعب التأثيرات الخارجية. لكنها ابتكارات أملتها أيضا التغييرات الحديثة.
١) بناء خالد القسري للأسواق :
أقيمت الأسواق في الكوفة منذ البداية ، كما هو معلوم ، في كامل الجانب الشرقي من المساحة المركزية مستقلة عن المسجد. والأسواق من عطاءات الحضارة العربية الأكثر تميزا ، حيث أن الأسواق الدورية كانت من أسمى مواضع الحيوية الإجتماعية والثقافية العربية. لقد جدد عمر القاعدة لتنظيم الأسواق ، فقرر أن المكان يعود لمن يحتله أول مرة : «الأسواق على سنة المساجد. من سبق إلى مقعد فهو له ، حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه». هذا أمر يناقض ثبات نقط البيع وتخصص الأسواق. على أنه تمّ لاحقا تحديد في تطبيق هذه القاعدة وقصرها على المساحات المخصصة من السوق حيث نرى ظهور التميّز من زمن ولاية زياد بالبصرة. فقد تحدث صاحب أنساب الأشراف عن «سوق الطعام» أي سوق
__________________
(١) ربما في عصر العباسيين.