من قريش والأنصار وثقيف. ومنهم كانت الجماعة السياسية الحاكمة والعسكرية والدينية ، وهي في القمة تمسك بزمام السلطة العليا والسلطة الحكومية في الكوفة. وكانت جماعة قليلة العدد ، لكن انضمت إليها قبائل وعشائر بدوية الأصل ، بفضل أحلاف قديمة أو حديثة أبرمها الرسول معهم. لنذكر كنانة وخزاعة ومزينة وجهينة (١). وكان لوجود شخصيات معتبرة أمسكوا بزمام سلطة القرار (سعد والمغيرة وزياد والحجاج) ، أن بدا تأثيرها واضحا على الصعيد التمصيري. إذ نحت أفرادها وجه الكوفة ، بصفتهم رجالا مسؤولين عن جماعة يعملون فيها طبق اختبارات مدبرة وبعد التروي فيها ، وهم في هذا منفتحون على جملة من الآفاق الثقافية ، أكثر مما كانوا ممثلين لنوعية معينة. لكن هذه النوعية كانت موجودة كتقليد حضري عربي أصيل يختلف عن تقليد الحيرة وتقليد اليمن.
لقد رأينا أنّ مكة تميزت بحيّزها المقدس أي الحرم ، بمسجدها وأماكنها التي يجتمع فيها الأشراف والمعروفة بالنوادي وبتكاثر منشآتها المعدة للاستقبال ودورها الجماعية (دار السقاية مثلا) (٢). وكانت الطائف تعرف بسورها المتقن الذي وقف عرضة في سبيل تقدم الرسول نفسه (٣) واختط الرسول أول مسجد للإسلام في يثرب ، فكان نموذجا قيست عليه كل المساجد الأحرى ، وأدخل ضمنيا مبدأ التخطيط والاقطاع بالنسبة للأراضي والأملاك الفردية (٤). كانت المدينة بلا شك مرحلة أساسية فتحت للسلطة القدرة على القيام بالمبادرة التنظيمية (٥). ولا شك أن الحاكمين استفادوا من مخزون الخبرات هذا.
ـ يمثل اليمنية ثالث هذه العوالم وقد كانوا حاضرين حضورا مكثفا في الكوفة ، وكانوا الورثة المتأخرين لحضارات متكاملة عرفت نظام الدولة والكتابة والري والمدينة. وقد عاش اليمن انهيار الأسر المالكة الأخيرة التي حكمته وعاش تفكك قواعد حضارته ، خلال المرحلة المتأخرة من وجوده التاريخي. فتمخضت عن هذا الأمر هجرات متوالية واحتلالات خضع لها ، فخضع لاحتلال الفرس والأحباش ، ويحدونا الشعور أن اليمن كان مجالا لدفع بدوي قوي ، وأن القبائل المعتبرة قبل الإسلام كانت متأثرة بالبداوة شديد التأثر منها همدان
__________________
(١) كتاب الاشتقاق ، ص ٢٨٥. ولا سيما اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣١٢.
(٢) C. E. Bosworth,» The terminology of history of the Arabs in the Jahiliyya according to Khwa razmi\'s» Keys of theSciences «Goitein Festschrift, pp. ٧٢ ـ ٣٤, (القدس ، ١٩٨١). انظر : دار سقاية الكوفة ، الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٧٣.
(٣) فتوح البلدان ، ص ٦٧ ـ ٧٠.
(٤) السيرة ، ص ٣٣٣ وما بعدها ؛ فتوح البلدان ، ص ٢٦ ـ ٢٨ ؛ لسان العرب ، مادة قطيعة.
(٥) بنى بها الرسول المسجد باللبن والحجر وسعف النخيل وجذوعه وأنشأ في يثرب السوق وخص الخيل بمجال عرف بالحمى : فتوح البلدان ، ص ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٨.