ولذا تسترد كلمة جبانة حقوقها حين يضطرب الناس ويثورون ، لكن المقصود بالذات في هذا المقام أيضا هي الجبانة بلا نعت بمعنى الجبانة الفذة التي يقع هكذا تفخيمها بسلبها من أية نسبة. وقد ورد ذكرها في العصر الأولي كمكان يؤمه الزهاد من أصحاب ابن مسعود (١) للصلاة والعبادة. وبداية من عصر زياد استخدمت الجبانة مصلى لصلاة الجمعة (٢). وهي ترد في غير هذا وبصورة مركزية أثناء ثورة المختار (٣) ـ لا ننس أنه من ثقيف ـ وثورة زيد بن علي وكان من قريش (٤). ظهر المختار فيها بعد انتصاره في السبخة ثم «طلع» إلى دور مزينة وأحمس (٥) وبارق وقد كانت بعيدة عن المدينة أو بطرفها. يجب تحديدها بأقصى الشمال ، والمحتمل أن يكون ذلك خارج الخطط المعروفة كما يوحي السياق وكذلك فبعد أن سيطر زيد على الكناسة ، حل مدة قصيرة بالجبانة التي يبدو أنها كانت خارج الكوفة ذاتها بصورة واضحة (٦). وهي لم تستخدم للقتال في الحالتين معا أو للتأهب له ، بل كانت مرحلة أو مكانا للعبور. إنه لأمر مهمّ ينبغي تأكيده. هذا ولم يكن اسم الجبانة دون أية صفة أخرى صورة فريدة ، بل إنه كان موجودا في البصرة (٧) والمدينة. ففي المدينة أمر عمر خلال سنة الرمادة بإقامة خيام بدو محارب الجائعين في الجبانة (٨). فهل كانت موجودة منذ ظهور الإسلام أم قبله؟ وفي الحالة الثانية ، يكون ذلك دليلا على تأثير اليمن منذ القديم ، على مدن شمالي بلاد العرب.
لكن جبانات الكوفة بقيت خاصية من الخاصيات المميزة للكوفة ، ومعبرة عن الوجود القوي الذي كان لليمنيين فيها ، وبفضل عددها وتعدد وظائفها وما كان لها من دور اجتماعي
__________________
(١) ابن سعد ، ج ٦ ، ص ١٦٠.
(٢) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٣٨. لكن من الممكن أن المقصود هي الجبانة بالبصرة.
(٣) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٨.
(٤) المرجع نفسه ، ج ٧ ، ص ١٨٣.
(٥) يقول اليعقوبي : «انتقلت عامة أحمس عن جرير بن عبد الله إلى الجبّانة» : كتاب البلدان ، ص ٣١١.
(٦) يبدو أن أبا مخنف حدد موقعها خارج الكوفة. فضلا عن أن المشهد الذي وصفه هذا المؤلف يسمح لنا بتحديدها في اتجاه الحيرة : الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٣ ، علما أن يوسف بن عمر كان يتابع من فوق ربوة كانت تقع بين الكوفة والحيرة ، وعلى امتداد البصر ، تحركات زيد في الجبانة. وقد كان قريبا منه بحيث كان في مستطاع زيد أسره. وروى سيف : الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٨٨ ، أن سعدا عسكر قبل الوصول إلى القادسية بين الغضيّ (في الطفّ غربا) والجبانة. وأخيرا ، فقد حدد ياقوت بوضوح الثوية خارج الكوفة وجعلها إلى جانب الحيرة : ج ٢ ، ص ٨٧. وجاء في عيون الأخبار ، كما ذكر في حاشية كتاب وكيع : أخبار القضاة ، ج ٢ ، ص ٤٢٤ ، خبر في المعنى نفسه لكن السؤال يبقى مطروحا : هل كانت تقع في الشمال الشرقي أم في الجنوب الغربي أم في الشمال الغربي؟
(٧) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ص ٤٠٧ ؛ ابن سعد ج ٧ ، ص ٤٩٤.
(٨) ابن سعد ، ج ٣ ، ص ٣١٤.