في مقابر البصرة (١). لقد أقيمت هذه المقابر وسط الخطط القبلية معبرة بذلك في أعمق دخيلتها ، بفعل الدفن وأزليته ، عن الضمير الجماعي للقبيلة ومن انتسب إليها. وبدون الدخول في البحث في أنثروبولوجيات الموت ، الذي نزعم أنه يكتسي أهمية قصوى ، ففي الإمكان أن نفترض أن الجبانات بقيت مدة طويلة بدون أنصاب وأحجار على القبور (٢). وقد أوصى بعضهم مثل شريح ببناء لحد داخلي (٣) ، لكن عدم ذكر اسم المدفون في الخارج هي القاعدة المعمول بها في أكثر الأحوال. علما أن اليمن عرف قديما أنصابا كانت تحمل كتابات منقوشة (المساند). ولا شك أن المثال البدوي عاد متفوقا في هذا المجال ، بعد أن أضفى عليها الاسم طابعه القدسي : كان مثال التستر والزهد وعدم الاكتراث بالقبر بوصفه علامة مرئية. ولم تكن اللامبالاة تتجه إلى الميت الذي يتضرع الشاعر العربي إلى السماء يستعطفها ، راثيا إياه ، طالبا منها أن تجود عليه بمائها المنعش. كما أنها لم تتجه إلى الموت في حد ذاته وقد كان مبعث الفزع والألم في القرن الهجري الأول ، كما ورد بأقوال ابن سعد (٤) ، ومنطلق مشاعر أخرى طبعا.
لا شك أن أرض الجبانات كانت منبسطة (٥) ، حتى تطأها أقدام البشر والخيل بالآلاف وتدور فيها معارك حامية دون ضيق واضح. وهكذا يصل بنا القول إلى أن الوظائف التي قامت بها هذه الأماكن كانت متعددة. كانت في البداية نقطة إشعاع ومركزية مجالية : فقد أشعت العشائر بقطائعها ضمن الخطة القبلية ، انطلاقا من جبانة مركزية ؛ ثم قامت بدور المقبرة ؛ والمقر للتجمعات ومركز العصب للحياة الاجتماعية عند القبيلة عندما تكتسي نبرة رسمية ؛ وأخيرا فقد كان لها دور عسكري بمعنى معين. لم يكن الجانب العسكري متوقعا في البداية قطعا ، إذ كانت الحشود التي تخرج إلى القتال من الكوفة كما من البصرة ، من الأسباع والأخماس ، تتجمع خارج المدينة في أمكنة تؤخذ من الصوافي كما
__________________
(١) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٦٦.
(٢) أبو داود ، السنن ، القاهرة ١٩٣٥ ، ج ٣ ، ص ٢١٦ ؛ وكيع. أخبار القضاة ، ج ٣ ، ص ١١.
(٣) ابن سعد ج ٦ ، ص ١٤٤. كان الأمر كذلك عند إبراهيم النخعي الذي أوصى زيادة على ذلك ، ألا تصحب النار نعشه : المرجع نفسه ، ج ٦ ، ص ٢٨٣ ، ٣٠٢. كان اللحد عبارة عن سرب من لبن ، يشيد تحت الأرض ولا بدّ أن ذلك لم يكن شائعا إلا قليلا.
(٤) المرجع نفسه ، ج ٦ وج ٧ ، في عدة مواضع. راجع أيضا تحية الأموات المنسوبة إلى علي عند الطبري ، ج ٥ ، ص ٦١ ـ ٦٢.
(٥) روي أن عليا وجه من قبله صاحب الشرطة لتسوية القبور الناتئة وقد فعل ذلك في المدينة بأمر من الرسول : وكيع ، ج ٣ ، ص ١١. يلتقي المثال البدوي بالتشدد الإسلامي في هذا المجال. ولنقارن ذلك بتعاليم محمد بن عبد الوهاب. وقد ظهرت أحجار القبور حوالى سنة ١٠٠ ه ، وجرى التشهير بهذه البدعة : ابن سعد ، ج ٦ ، ص ٣٠٢.