ـ ٢٣ ـ
وضع السكك : السور والخندق
لا يبدو أنّ الإنارة كانت موجودة باستمرار في الكوفة ، خلافا لما قد يظنّ اعتمادا على إشارة ماسينيون الذي يتكلّم عن «المشاعل المنارة ليلا» (١). كان الظلام يسود الكوفة بالليل ، كما كان يسود روما (٢) ، وتقريبا كافة المدن التي سبقت العصر الحديث. ولنا على ذلك حجج مباشرة وغير مباشرة ، فمثلا كان عبيد الله بن زياد يتفقد المسجد ليلا ، سنة ٦٠ ه. بالمصابيح مقلبا الزوايا (٣). وقد وقف الحجاج فوق باب القصر ، عند دخول شبيب إلى الكوفة «وثم مصباح مع غلام له قائم» داعيا الناس إلى الحشد ، ويرشدنا السياق إلى أن الرؤية كانت غير ممكنة بالمرة (٤). وكانت المشاعل التي تحدث عنها ماسينيون وجاراه البراقي في ذلك ، من الهرادي الذي أشعلها جنود زيد بن علي (١٢٢ ه). لما ثاروا بالليل ، وذلك للتعارف وإشاعة الدفء بينهم في آن لأن «الليلة كانت شديدة البرد» (٥). إنها لظاهرة استثنائية وهذا ما يفسر ملاحظتها وتدوينها ، ذلك أن الأمر لم يكن متعلقا بإضاءة عادية مستمرة للسكك. ويظهر أن الهرادي كانت لا محالة حزما من القصب ربطت بينها فروع الكرم (راجع تاريخ حنبعل) يتمّ اشعالها ورفعها ، وهي تحترق سريعا جدا ، «فكلما أكلت النار هرديا رفعوا آخر». أما الحجج غير المباشرة فكثيرة. ورد بالمصادر أن الليل كان يساعد على التجمعات تأهبا للانتفاض ، واندلاع الثورات ، وأيضا تدبير المؤامرات والتنقلات أو مجرد العنف اليومي ، ولا سيما السرقات. وكان هذا العنف حاضرا وشاملا ، وقد شهر به زياد وندد به في خطبته (٦) التي كانت في الواقع بمثابة منشور موجه لأهل البصرة .. وقد غلب
__________________
(١) Massignon ,op.cit.,p.٦٤.
(٢) Le ? on Homo ,op.cit.,p.١٨٥.
(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.
(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٤٢.
(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ١٨٢.
(٦) أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧.