وذهب التفكير بغرابارO.Grabar (١) في بحث مهم ، تجاوز فيه مؤلفه الأفكار الشائعة نوعا ما ، إلى أن قصر المنصور في بغداد كان مقتبسا من العصر الأموي وأنه كثيرا ما جرى تجاهل وجود أسلوب معماري أموي في وادي الرافدين ، الذي جسمته واسط والكوفة ، ولعله انتقل إلى الشام. وتساءل فعلا عن دور الكوفة ، وكان سؤاله عما إذا كانت نموذجا للبناءات الأموية (في واسط) كما العباسية (في بغداد) (٢). ينبغي العودة للبحث في هذا المشكل ، لأن المؤلف بقي على سطح الاتجاه إلى المقارنة الهندسية الصرف ، ولم تشمل افتراضاته المجموعات المدنية ، لكن الأمر يتعلق بمؤشر لا مراء فيه. وقد مر بنا أن لاسنرLassner كان يلح على فكرة الأصالة في المدينة المستديرة ، وقد رأينا أن تصوره كان خاطئا بشأن كيفية إنشاء الأمصار وتطورها. وبالرغم من ذلك فقد تحدث عن «التشابهات العجيبة» بين مركز بغداد من جهة ، يعني «المجال الشخصي» للخليفة ، وبين مركز الكوفة وواسط من جهة أخرى (٣). وقد لاحظ وجود مركب القصر والمسجد في الموقعين وطابعهما الاتصالي وأن المسجد كان أصغر من القصر. أما فيما يتعلق بالعلاقة المادية الجوهرية بين القصر والمسجد فقد نسب وجودها في الكوفة الأولية (٤) ، وظهورها من جديد في بغداد إلى الإرث الساساني المشترك الذي ينبغي التدليل عليه ، في حين أنه كان أكثر معقولية وأكثر مصداقية أيضا أن تعتبر تأثيرا من الكوفة على بغداد.
من المناسب أن نقول إن هذه الانطباعات المتفرقة تأتي لدعم فرضيتنا القائلة بأن الكوفة نموذج ، أو على الأقل أن الكوفة لعبت دورا بارزا في توضيح التصور الحضري الإسلامي. فقد استند المؤلفون السابقون إما إلى تشكيلة المركز وإما إلى هندسة القصر. لكن سبق أن أشرنا إلى عنصرين للمشكل هما ثنائية المساحة العامة ومساحة السكنى ، وبنية الخطط ذاتها التي تحدد إمكانية أصلية للتطور نحو حاضرة متشعبة ملتوية المظهر ، فكان ذلك سبقا للنموذجية التي كان عليها وضع الكوفة ، وأيضا طرحا لقضية الاستمرارية في مشروع الاسلام الحضاري.
الكوفة والبصرة :
تفقد هذه النموذجية كل حدتها إذا رضينا بما ورد في الروايات التاريخية بخصوص
__________________
(١) al ـ Mushtta, Baghdad and Wasit «, in The World of Islam, Studies in honour of Philip Hitti, London, ٠٦٩١, pp. ٩٩ ـ ٨٠١.
(٢) Ibid.,p.٤٠١.
(٣) Lassner ,The Topography of Baghdad ,pp.٣٣١ ff.
(٤) لا في البصرة ، كما قال خطأ : ص ١٣٤.