البصرة بتخطيط يخصهم. يحتمل كثيرا أنهم سبقوا أهل الكوفة في مدة تقع بين سنتي ١٦ و ١٧ ه / ٦٣٧ ـ ٦٣٨. وما ينبغي تسجيله خاصة هو الفرق بين ظروف الاقامة هنا وهناك ، والفارق الدلالي الكبير بين هاتين الظاهرتين. كان جيش الفتح موجودا في الكوفة التي كانت ترمز إلى تجربة الاستيطان العربي في بلاد الرافدين ، بالنسبة لعمر. وقد توفرت لهذا الجيش أرض مفتوحة تستدعي التنظيم مع ما يشمل ذلك من ابتكار وتهيئة واستيعاب للتجارب الواردة بالمحيط. وكانت البصرة ثمرة لعفوية لم يجر السيطرة عليها تماما ، وثمرة لعمل إضافي ثانوي في البداية ، وثمرة رغبة في الهجرة بأقل التكاليف. فكانت إذن محتشمة ضعيفة المدى واستفادت من الانتصارات التي ترتبت عن خوض معارك كبرى وقعت بمركز القرار في بلاد بابل. كانت هناك لحظتان واضحتان في ظهور البصرة : فترة إقامة مؤقتة سنة ١٤ ، بعد وقعة البويب مباشرة ، وفترة اقامة دائمة مصحوبة بالتخطيط والبناءات ، بعد سنة ١٦ ه / ٦٣٧ (١). لكنه كان تخطيطا منقوصا حتما ، وهو ما يفسر فيما بعد اتساع أعمال التحوير والتشييد التي أمر بها زياد. ولا شك أنه أخذا بوجهة النظر هذه ينبغي الاحتفاظ بالأسبقية في التخطيط للكوفة أو على الأقل على كثافة أعظم في الدلالة ، وحتى تخطئة الموازاة أو التوأمة بين المصرين في هذه المرحلة الأولية. ومن الممكن أن التقليد التاريخي العربي قد أسقط على وضع مختلف صورة الكوفة الأولية والصورة التي أضحت عليها البصرة بعد ذلك. وعلى كل ، فقد اتصفت الكوفة من أول وهلة بصفة المدينة ، أو أن تخطيطها على الأقل ، أكد طموحها لذلك لأن أهل الكوفة قاموا بحربهم ، فجنحوا إلى الحياة المدنية. أما البصرة فباستثناء الغارات الأولى التي وقعت في مرحلة الخريبة ، فقد كان عليها أن تشن حربها (في خوزستان) لتربح سلمها وتدعم وجودها. فما أعوز نشوؤها من صفات العز التي توفرت للكوفة ـ النموذج التمصيري والتنظيم الجبائي العسكري وكبرياء السابقة ـ عوضت عنه بأن كانت مكانا للمبادرة والخلق والتماسك الذي استحقته بقدر ما منحته. لقد بقيت الكوفة حبيسة نشأتها المنظمة جدا ، والمرتبطة كثيرا بالحرب والحكم. وبفضل عفويتها الأولى ، حصلت البصرة على قدرة كبيرة على التطور ، ونزعة عميقة إلى السلم الداخلي.
الكوفة وواسط :
سبق أن قلنا أن غرابار أقام صلة أساسية بين الكوفة وواسط وبغداد ، فلفت بذلك نظر الباحثين إلى أهمية العمارة الأموية بوادي الرافدين وحتى إلى دورها النموذجي لا في الاتجاه الأموي ـ العباسي فقط حيث طرح الاستمرارية ، بل أيضا في الاتجاه الفضائي العراق ـ
__________________
(١) ذاك هو الأمر الذي لم ينتبه إليه صالح أحمد العلي ، التنظيمات ، ص ٣٦.