لا محالة ، ازدوجت بعوامل ملموسة تماما : تسرب العناصر الأعجمية بالتناضح البطيء ، وتطور السلطة وتطور المجتمع الشامل في علاقاته مع السلطة. فحتى مع العباسيين القريبين جدا من الخراسانيين ، بقي عالم أهل السواد العالم الغريب ، الخاضع ، الأهلي ، المحتقر احتقارا عميقا ، وقد حاصروا المدن بحضورهم القريب جدا ، وأثاروا ردودا دفاعية خيالية صرف. وهكذا فمن الكوفة إلى بغداد مرورا بواسط امتدت الرؤية الحضرية العربية وتحولت في آن. وقد استمرت واسط في بغداد بوضوح. أما بالنسبة للكوفة ، فقد انفصلت بغداد عنها من عدة جوانب ، وتمادت فيها من جوانب أخرى. انفصلت بغداد عن روح الصحراء التي كانت حية جدا في الكوفة ، والتي جعلت منها مدينة مفتوحة ـ ما عدا فترات الارهاب. وعادت بغداد إلى النموذج الكوفي بواسطة تصور المركز أصلا والمدينة بصفتها مركزا ومساحة سكنية ، لكن مع رفض مركزية الأسواق وهذا يمثل خروجا على التقليد الكوفي والإسلامي معا (١). وأخيرا فقد أثرت على الكوفة رجعا وحثت على ظهور الثنائية الكلاسيكية بين المدينة والأرباض ، وهذه كيفية لمراقبة انفجار النواة الحضرية. كان انفجارا سريعا مذهلا بخصوص بغداد. ولا شك أنه يجب تكريس الفرق الكيفي في هذا الصدد ، القائم بين بغداد والأمصار القديمة بحيث نلحظ تركيزا أقوى لامكانات الامبراطورية على صعيد أسمى لبناء الحضارة الإسلامية. فبين ضخامة حجم بغداد الكبيرة (٢) وسامراء ، والحجم المتوسط الذي كانت عليه الكوفة والبصرة ، وبين السرعة الخاطفة للنمو من جهة وبطء التجربة من أخرى ، يتبين الفارق نفسه الذي وجد بين الحاضرة الهلينستية (الإسكندرية مثلا في عصر بطليموس فيلادلفوس عند عظمة تتويجه) ، وبين حاضرة يونانية من العصر الكلاسيكي (أثينا في القرن الخامس). لكن عمل احتضان الأمصار الذي استمر وجوده يتراجع طيلة قرن ونصف ، هو الذي قامت عليه حضارة بغداد. والمفارقة في هذا الصدد أن هذه المدينة الحبيسة ، كما كانت في بداية الأمر داخل أسوارها بقرار من السلطة ، قامت بتفجير الأسوار لتصير حاضرة مفتوحة لكل التيارات. في حين أن الأمصار التي كانت مفتوحة بطبيعتها ، زرعت الهوية الثقافية وحفظتها.
__________________
(١) أثار لاسنر في هذه النقطة نقاشا مع ماسينيون ، لكن مركزية الأسواق محتملة على مستوى الحاضرة كافة ، انظر : Lassner, op. cit., pp. ٣٧١ ff
(٢) في حين كانت المدينة المستديرة تغطي مجالا يقدر ب ٤٥٣ هكتارا ، وهذا يمثل حسب رأيي أقيسة الكوفة الأولى في العصر الأموي ؛ كانت مجموعة بغداد في خلافة الموفق (٨٩٠ ب. م.) تقيس ٧ كيلومترات في ١٠ كيلومترات. ويبدو أنها بلغت مساحة تقدر ب ٧٠٠٠ هكتار :.Lassner ,op.cit.,pp.٧٥١ ,٩٦١ الحقيقة أن الكوفة غطت في العصر ذاته مساحة تقدر ب ٧٥ ، ١٦ ميلا مربعا ، واشتملت على ٨٠٠٠٠ دار : ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩٢ ، وأن حقولها الأثرية التي تعود إلى القرن الثالث الهجري ، كانت عظيمة (١٥ كم* ٩ كم) : الجنابي ، ص ١٥٩. وإني أرى أنه بالغ في توسيعها.