المنظور ، تكتسب الدراسة التاريخية للكوفة ، وهي أضخم مركز هجرة عربية إلى أرض غير عربية ، أهمية بالغة؛ فالكوفة هي منطلق العالم العربي إلى الخارج ، ومركز سيطرته ، وهي المختبر الذي جرت فيه تجارب تنظيم المجتمع الجديد ، وبؤرة الصراعات الداخلية ، وهي أيضا ، إلى جانب البصرة ، الرحم الذي ستولد منه الحضارة العربية الإسلامية بقضها وقضيضها.
I ـ انطلاق القبائل اليمنية في العصر الأول
بين المدينتين / المعسكرين الأكثر أهمية في الإسلام الأول ، الكوفة والبصرة ، أثبتت الكوفة أنها أكثر عروبة ، وأكثر تسيّسا ، لأنها اجتماعيا أقل تجانسا؛ فقد احتضنت فاتحي الإمبراطورية الساسانية ، والظافرين في معارك القادسية والمدائن وجلولاء ، أي الذين نفروا ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ، لتلبية نداء الجهاد من اليمن والحجاز وشتى أنحاء سباسب الفرات.
على مدى السنوات الثلاثين الأولى للهجرة ، كانت الكوفة مصرا بامتياز ، كانت «قبة الإسلام» و «جمجمة العرب» ، بحسب قولة تنسب إلى عمر الذي جعلها مركز نظامه العسكري وإدارته المالية. ولم تبدأ البصرة بمنافسة الكوفة إلا في عهد الخليفة عثمان بن عفان ، وذلك بسبب غزوها لخراسان وسيطرتها على موارد المشرق التي أتاحها ذلك الغزو. ولعبت البصرة في القرن الثاني الهجري ، دورا ثقافيا من الطراز الأول. لكن ، إذا نحن شئنا أن نرسم صورة دقيقة لهيئة العروبة الإسلامية الأولى ، فلا جدال في أن الكوفة هي التي يتعيّن علينا تفحصها.
فالكوفة ، كما أسلفنا القول ، هي التي اختار المقاتلة الأوائل أن يجعلوها مقرا لهم. وكان معظمهم من ربيعة واليمن. وفي ما يخص اليمن تحديدا ، كانت الكوفة تضمّ معظم اليمنيين الأقحاح ، أي قبائل مذحج وهمدان وحمير وحضرموت. ويذكر الطبري (١) أن القبائل التي كان منها أكثر المهاجرين إلى العراق ، هي ربيعة ومذحج وهمدان؛ وتتميّز ربيعة بكونهم استقروا إلى هذا الحدّ أو ذاك ، ومنذ ما قبل الإسلام ، إما في العراق ، وإما عند تخومه ، بينما لم تأت مذحج وهمدان إلا مع مجيء الإسلام. حتى أنه يحق التساؤل عما إذا كانت همدان هي القبيلة العربية الأكثر تعدادا في العراق ، وما إذا كانوا قد أقاموا في أماكن أخرى خارج الكوفة. من جهة ثانية ، وخلافا لذلك ، من الثابت أن قسما
__________________
(١) الطبري ، تاريخ ، ٥ ، ٣٤ ، طبعة القاهرة ، ١٩٦٠ ـ ١٩٦٩.