من هيمنة القبائل العربية الشمالية (عبر الإسلام واللغة والدولة)في تحديد الإطار الجديد للوجود العربي.
يقول ماسينيون ، بخصوص الكوفة ، إن«العرق العربي أصبح مدنيا في الكوفة بفضل العنصر العربي الجنوبي الذي كان حضريا» (١). فإذا تذكرنا أن القسم الأعظم من المهاجرين كانوا إما بدوا عريقي البداوة (مضر ـ تميم) وإما نصف بدو (ربيعة) ، فإن السؤال حول الحضرية يبقى قائما يحتاج إلى إجابة. فالحضرية ليست تثبيت البدو في مكان محدد فقط ، وإنما هي أيضا تمرّس بحياة المدينة يصعب الحصول عليه ، وتجربة تعايش بين القبائل ، وتربية اجتماعية تتولاها عقلية معينة. من هنا جاءت الفرضية التي أطلقها ماسينيون حول الدور التحضيري الذي قام به اليمنيون أمثال همدان وحمير ومذحج. وقد كان للقبيلتين الأوليين ، على الأقل ، تمرس فعلي بحياة المدن كما بحياة الأرياف. فالهمدانيون كانوا يقيمون في الوديان شمال صنعاء ، في تلك القرى إياها التي حملت أسماءها قبائل انتقلت إلى الكوفة : شبام ، ناعط ، ديبان ، السّبيع ، مرهبة ، شاكر ، خارف ، إلخ. حتى إننا نتساءل إن لم تكن المطابقة بين العشيرة (وهو مفهوم يقوم على نسب الدم) وبين القرية ـ الأصل (وهي مفهوم يقوم على حيّز جغرافي) التي جاءت منها هذه العشيرة ، قد تمّت أثناء الهجرة ، بغية تكييفها مع العادات البدوية المهيمنة ، لا سيما أن القبائل العربية الجنوبية الأكثر «حضرية» ، بما فيها الحميريون ، عاشت في هيكليات قبلية. كانت حمير ، داخل مجمّع القبائل اليمنية الأصيلة ، القبيلة السياسية؛ ولا نعلم ما إذا كان عددها قليلا على الدوام ، أم أنه كان لممارسة السلطة يد في إضعاف عددها. وعلى الرغم من عراقة همدان ، فإنها ربما كانت على صلة ما بالمدّ البدوي في اليمن الذي تحمّل ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، أوزار دك صرح الحضارة اليمنية. ثمة إذا أسئلة مستعصية مطروحة ، إلا أن المؤكد هو أنه كان هناك تعايش بين بنيتين قبلية وحضرية (كما في حالة قريش وثقيف ...) ، وأنه إذا كانت القبيلة تحدّد بوعيها بالأصل المشترك الواحد ، فإن العشيرة في اليمن تتحدد بالعيش المشترك في قرية واحدة.
تصطدم فرضية ماسينيون بعقبتين كبيرتين :
ليس هناك من دليل على الدور «التمديني» الذي لعبه هؤلاء اليمنيون. خلافا لذلك ، وجد اليمنيون أنفسهم مرغمين على الإعراض عن الهيكلية
__________________
(١). Opera Minora,III,p. ٤١