الحضارة المختلفة والمادية ، كالزراعة والصناعة والتبادل التجاري. فمن المعلوم الذي لا يمكن إنكاره أن التأثير اليمني في الأندلس ظهر في أساليب الريّ وفي ذلك الحجم الكبير والمتنوع من المنتجات اليمنية ، وأهمها الأسلحة والأقمشة (١). ولكن اليمنيين لم ينصرفوا إلى الأعمال الزراعية والحرفية بأكثر من العرب الذين استقروا في الأمصار العراقية ، وذلك في القرن الأول على الأقل ، وبسبب كونهم يتقاضون رواتب مالية؛ فتركت تلك الأعمال إلى السكان الأصليين (من ذمّيين وموالي وعبيد). وإذا ، كانت الهيمنة للتقاليد المحلية القائمة الآرامية والفارسية. على أن الخبرات والمعارف اليمنية قد تكون تسرّبت على نحو مباشر إلى الحياة الاقتصادية ، وبخاصة في الري والتجارة ، لا سيما بعد ما نزع السلاح من البصرة والكوفة وانخرط في الحياة المدنية جميع الذين كانوا يقاتلون ويشاركون في الفتوحات.
لقد كانت الكوفة أحد مهدي الثقافة العربية الإسلامية ، وهذا أمر واقع متفق عليه. وكان اليمنيو الأصل يسهمون إسهاما نشطا وفعالا في بلورة هذه الثقافة. لكن ، يبقى أن المسألة التي ينبغي التحقق منها هي إلى أي مدى تمّ إنجاز ذلك الإسهام تحت عنوان أو في إطار الهوية اليمنية.
استلهمت هذه الثقافة مرجعين أو نظامين أساسيين هما الإسلام من جهة ، والعروبة البدوية من جهة ثانية. كما كانت تلك الثقافة على تماسّ مع ثقافات البلدان المغلوبة ، فتأثرت بها من خلال سعيها إلى الإجابة عن أسئلة جديدة لم يسبق أن واجهتها قط ، فقد طرحتها عليها الظروف التاريخية والاجتماعية المستجدة. فقراءة القرآن وجمع الأحاديث النبوية وصوغ قانون قضائي وتثبيت قواعد اللغة والكتابة ، والتوق التاريخي إلى أيام الجاهلية وقيم العروبة البدوية ، أو على العكس من ذلك ، إلى العصر الذي دشنه نزول القرآن ، ذلك كله شكل تحديات راح يتصدى لها مؤسسو الثقافة العربية الإسلامية. وفي خضم هذه الأمور التي كانت في طور التخلق ، انحسرت اللغة الحميرية لفظا وكتابة ، لما فيه مصلحة اللغة القرآنية وكتابة أهل الحيرة (التي ضبطتها إياد ، على ما يقال). وكان تاريخ«أيام العرب»الحديث يفوق مجدا مآثر ملوك حمير. فلم يكن معترفا بشيء من الميراث اليمني كأساس للوعي العربي الجديد ، حتى ولو كان عليه أن يلعب دورا في الوعي السياسي بوصفه ذاكرة ، كما مرّ بنا. انطلاقا من هذا التصحيح
__________________
١) راجع في هذا الموضوع : صالح أحمد العلي ، تنظيمات .. (مرجع مذكور).