ـ ٤ ـ
انشاء الكوفة
(أواخر سنة ١٧ ه / ٦٣٨)
ما ينبغي تأكيده جيدا ، أن عرب العراق رغم أنهم اندمجوا في نسق أكد التفوق الأبوي للدولة ، فإنهم تمتعوا فعلا بأعظم جزء من مداخيل الولاية بفضل مؤسسة العطاء. ذلك أن بيت المال بالمدينة تغذّى أيضا بموارد أخرى (١). وما يستخلص في التحليل الأخير أن إعادة توزيع الأموال لصالح الارستقراطية الإسلامية لم يشمل سوى قليل من الناس. ولا شك في قلة احتياجات الدولة وفي بساطتها في تلك الفترة ، مما جعل ولاية العراق تتمتع باستقلالية ذاتية مالية لحد كبير. وكانت هذه الاستقلالية شرطا أوليا لتكوين مصر الكوفة. لعل كلمة مصر من أصل يمني ، ولم تكن شائعة للتعبير عن إنشاء الكوفة (خلافا لكلمة تخطيط التي تعني الاستيلاء على الأرض بعد تقسيمها) (٢). ومن الممكن أن الكلمة شهدت تطورا وأنّها رسخت في الاستعمال ارتباطا بما أوحت به من واقع. كانت توحي في الأصل بفكرة الحدود والمعسكر الحدودي المتاخم لعالمين حيث يجري توزيع الفيء «دون الرجوع إلى الخليفة» (٣).
لا شيء في المصادر المتوافرة لدينا يدل على الأسباب المحتملة التي يمكننا عرضها بخصوص انتقال جيش المدائن إلى الكوفة العتيدة ، كضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية والإصرار عليها ، والصلات المتيسرة بالوطن الأم ، والانفصال عن السكان الخاضعين ، والاستعداد العسكري. حقا أنّ إحدى الروايتين اللتين ذكرهما البلاذري ، وهي رواية مدنية (للواقدي) ، أشارت جيدا إلى السبب الأصلي المتمثل في الأمر الذي أصدره عمر لسعد بأن
__________________
(١).E.I / ٢ sub verbo. وكانت موارد ضخمة.
(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٧٤ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٣٠٩ ـ ٣١٠ ؛ الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٠ وما بعدها ؛ استعمل ياقوت كلمة (تمصير) : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٩١.
(٣) ابن منظور ، لسان العرب ، بيروت ، ١٩٥٦ ، ج ٥ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.