ـ ٥ ـ
تشابك المشاكل
أشرنا حتى الآن إلى التقلبات التي طرأت على نشأة الكوفة وإلى الأسس التنظيمية التي ستعيش عليها. لكن ، ألا يتجاوز الفتح العربي للعراق مصير الكوفة ، إذا ما شرعنا في دراسة هذا المصر في خصوصيته وفي وجوده الهش كمدينة؟ لا شك أن المأثرة العسكرية التي دامت خمس سنوات والتي انطلق منها العرب فخرجوا من الحجاز ونجد واليمن إلى طيسفون ، أعطت أكلها فكانت الكوفة وكانت البصرة أيضا. وكان من المحتمل أن يؤول الأمر إلى خيار آخر ، مثلا إلى انبثاث في السواد ، ريفي الطابع. لكن لا مناص من الاعتقاد أن فكرة الهجرة هي التي هيمنت على فتح العراق ، بصورة أوضح مما كان عليه الأمر بالشام ، وأن الاستقرار بالكوفة كان الغاية والمحرك للعمل العسكري. كان العرب يهدفون إلى احتلال مكانة الفرس بصورة محسوسة ، أكثر مما كانوا يهدفون إلى تحطيم الامبراطورية الفارسية في العراق ، بوازع القوة (١). واجتمع في الكوفة أكثر المقاتلة ، فبدت وكأنها نتيجة تمخضت عن الفتح إلى حد بعيد ، ذلك أن التسلسل من الفتح إلى الكوفة أقرب إلى الإدراك الفوري مما عليه في البصرة. بقي أن نطرح المشكل الذي ألمحنا إليه سابقا ، والمتعلق باختيار النموذج المدني كنمط للاستقرار بالعراق ، أي في الكوفة كما في البصرة. كان اختيارا كبير النتائج لتحكمه في بنية الحضارة العربية الإسلامية المرتقبة وفي التوسعية العربية كما في الأسلوب المضطرب الذي عاشته الكوفة. ذلك أن مفهوم المصر ينطبق بداية على مركز ذي اتجاه عسكري حدودي (٢) ، لكنه يعني أيضا وبصورة لا تقل قيمة ، إقامة دائمة للسكن قابلة للتطور إلى مدنية (٣).
__________________
(١) راجع ما سبق ص ١٧ وما بعدها ، سمى العرب الفرس «الأسد» وسموا البيزنطيين «الأسيد». روى الطبري هذه الكلمة مشوهة ، ونجت من التشويه عند ابن الأثير ، الكامل ، ج ٢ ، ص ٤٥٢.
(٢) ابن منظور ، لسان العرب ، ج ٥ ، ص ١٧٥.
(٣) المعنى واضح عند البلاذري ، فتوح البلدان ، فهو يصف ما يطرأ من تحول من الحامية إلى المدينة حيث يصير لها