للنهوض بمشاريع يغطّي رهانها مجال الإسلام كله. لم تكن الكوفة مدينة زراعية كما أنها لم تكن مدينة تجارية. وهذا منظار آخر ينبغي تفنيده أو تقويمه : وهو يتمثل في فكرة ما للدور التجاري من أهمية ضرورية لتفسير الازدهار الذي تبلغه حاضرة من الحواضر. وهي تتحول إلى فكرة فاتنة شديدة الجاذبية إذا تعلق الأمر بمدينة إسلامية ، منذ أن أبرزت أهمية اللغة التجارية في القرآن ، مرورا بالتاريخ القوافلي لمكة ، دون إغفال الاتجاه التجاري الأولي للرسول ، إلى أن أوضحت خطوط الاتصال الكبرى في العالم الإسلامي بصورة مفصّلة أكثر ، ووزنه النقدي في العصر الكلاسيكي (٦٥٠ ـ ١٠٥٠) ، وكذلك تيارات المبادلات العظيمة التي اخترقت مجال الإسلام (١). لم ينفك التقليد التاريخي الحديث يفرض أخذ الظاهرة التجارية بعين الإعتبار ، عند القيام بأية دراسة تاريخية للمدينة ، إلا أن الكوفة ، وكذلك البصرة ، لم تنشأ من احتياجات التجارة التي لم تكن محركا لتطورها. وفي حين أن البصرة ـ التي ازدهر دورها التجاري كما عرفناه ، في القرن التاسع (٢) ـ تمكنت لا محالة من النشوء مجددا من العدم ، نظرا لموقعها الطيب ، كان المركز الديني بالنجف العنصر الوحيد الذي خلفته الكوفة حين قضي عليها إلى الأبد. لقد تمكنت التجارة من إنقاذ البصرة إلى حد ما. وبما أن التجارة كانت ضعيفة بالكوفة ، فإنه لم يتح لها مثل هذا الإنقاذ. وبعد ، فقد ظهرت التجارة هنا وهناك منذ البداية (٣) ، وقامت بوظائفها الأساسية في تغذية الحاضرة وهي الحاضرة المتخمة بالعملة (٤) ، لكن هذه التجارة تمت انطلاقا من المال الموجود والعمران القائم.
لم تنشأ تصورات شعبية خاصة بالكوفة ، لها ثراء التصورات نفسها التي نشأت بخصوص البصرة وبغداد اللتين كثيرا ما ورد ذكرهما في كتاب ألف ليلة وليلة مثلا. حقا
__________________
(١) ابن خرداذبه ، المسالك ، ص ١٥١ وما بعدها ؛ عبد العزيز الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي ، بغداد ، ١٩٤٨ ؛ Lopez et Raymond, Medieval Trade in The Mediterranean World., N. Y., ١٦٩١ Goitein, A Mediterranean Society, BerKeley, ٧٦٩١; Lombard, L\'lslam dans sa premie ? re grandeur, Paris, ١٧٩١; Espaces et re ? seaux du haut moyen age, Paris, ٢٧٩١. وأعمال ماسينيون وكلود كاهن من بعده معروفة بما يكفي.
(٢) صالح أحمد العلي ، التنظيمات ، ص ٢٣٣ ـ ٢٦٣ ؛ Lombard, L\'Islam ـ ـ ـ , op. cit., p. ٢٤١ de la nouvelle. e ? dition ـ ـ ـ
(٣) الزبيدي ، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة في القرن الأول الهجري ، بغداد ، ١٩٧٠ ، ص ١٤٩ ـ ١٧٨.
(٤) كان محصول الخراج في خلافة عمر ١٠٠ مليون درهم : فتوح البلدان ، ص ٢٧٠ ؛ أما عن عصر زياد ، فيراجع أنساب الأشراف ، ج ٤ (١) ، ص ٢١٩ ، والأرقام هي خاصة بالكوفة فحسب ؛ والصولي ، أدب الكتّاب ، القاهرة ، ١٣٤١ ه ، ص ٢٢٠.