الرسمي العلني نحو الشام وفلسطين ، فجهزت ثلاثة جيوش مهمّة (في بداية سنة ١٣ ه / ٦٣٤). وهكذا فإن وجدت استمرارية في النوايا منذ عهد الرسول وروح عزم وقرارات باتّة من لدن دولة المدينة فإن ذلك كان موجها نحو الشمال ، فضلا عن احتمال وجود أسباب أخرى موضوعية أملتها الأوضاع القائمة في الخارج. ويبدو لنا أن شعبان قدّم عن دراية افتراضا مفاده أن البيزنطيين كانوا يتأهبون للقيام بتدخل وشيك ، درءا للحملات العربية على حدودهم. لقد كانوا أكثر اطلاعا من الفرس على ما كان يجري في بلاد العرب ، وكانوا راغبين أيضا في إعادة الخطوط التجارية التقليدية التي انقطعت بسبب تقدم الإسلام (١).
والمقصود من كل هذا النقاش أنه إذا وجب طرح قضية الفتح عامة ، فمن حصافة الرأي أن يكون هذا الطرح بخصوص الشام لا بخصوص العراق. على أن مشروع الفتح امتد سريعا جدا إلى العراق في أثناء خلافة عمر ، إذ أعاد عمر النظر في العمليات الأولى التي قادها المثنّى وخالد ، فوسع فيها وعقلنها بداية من سنة ١٣ ه / ٦٣٤. وبذلك يتبين أن تطور الفتح في العراق يوضح توضيحا ممتازا كل ما يتعلق بأسباب التوسع. تتجلّى هذه الأسباب بتطور الظاهرة ذاتها في تنوعها الملموس. ذلك أن الفتح العربي الخاضع منذ البداية إلى دفع مركزي ، حالفه التنوع المرتبط بتنوع الأقاليم المفتوحة ، وتضمن هذا التنوع البذرة التي نبتت فيها القضايا المقبلة التي ستواجه المجتمع العربي المهاجر. كان الفتح فعلا «هجرة مسلحة» ، كما جاء في تعبير كايتاني الجيد (٢) ، وهي عبارة تنطبق على العراق أكثر مما تنطبق على أية جهة أخرى. أما أن يعتبر كرجوع لا شعوري إلى حركة بعيدة في الزمن ، كما فعل المستشرق الإيطالي ، وبمثابة ظاهرة تدفع بانتظام موجات الساميين بعيدا عن موطنهم الأول في بلاد العرب ، فذلك يعني تأويلا للتاريخ عرقيا مشطا. ذلك أن كلمة ساميين تشمل بشرا متنوعّي الأصناف وحّدهم التبحر العلمي الأوروبي في القرن التاسع عشر بأن جدد بناء لغاتهم فربط بينهم ربطا خياليا (٣). وعوض أن نرجع إلى العصور الغابرة من الأجدر بنا أن نبذل الجهد للاحتفاظ فقط من تاريخ العراق الذي سبق الإسلام مباشرة بما من شأنه أن يوضح
__________________
(١).Islamic History ,I.p.٥٢ من المهم أن نلاحظ أن المسلمين كان يحدوهم في حياة الرسول ، شعور بالخطر البيزنطي المسلط عليهم. وقد راجت إشاعات سنة ٨ ه / ٦٢٩ ، مفادها أن هناك قبائل عربية مناصرة تجمعت حول البيزنطيين ، هي لخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة : راجع ابن عساكر ، تاريخ دمشق ، ج ١ ، ص ١٠٤. ومن المعلوم أن وقعة مؤتة كادت أن تكون كارثة.
(٢) Annali dell\'Islam ,Vol.II ,t.II ,p.١٦٨
(٣) من العبث القول إن الفتح العربي في بلاد الرافدين كان «آخر محاولة لإقامة الهيمنة السامية من جديد في آسيا» : Caetani, Annali, Vol. II, t. II, p. ١٦٨ ، كأن الأمر يتعلق بوجود وعي سامي وباستمراره عبر التاريخ.