وجدت رؤية شيعية كارثية ، وقد حللها ماسينيون (١) ، كما وجد تصور ثقافي ، ما زال حيا ، متعلق بالارث النحوي (٢) ، إلا أن ايقاع أطوار حياة هذه الحاضرة بقي هزيلا في المخيال الإسلامي. وبذلك تفرض نفسها صورة الحاضرة الإسلامية المتأخرة ، الحاضرة المختنقة في أزقتها الضيقة ، المسحوقة بتشعبها الفوضوي ، المأهولة بالسكان والمتلونة (٣) ، وإذا كانت فكرة «المدينة» (٤) قد ظهرت بظهور العصر العباسي ـ التي نفترضها متراصة ـ وكذلك فكرة الربض المحيط ، يبقى أن الكوفة تميزت بخاصيات المدينة المفتوحة الهندسية الواسعة المهوّاة وهي الخاصيات الموجودة حين كان نشاطها السياسي والعسكري على أشده (١٧ ـ ١٣٢ ه / ٦٣٨ ـ ٧٤٩) ، والموجودة مجددا في آخر مراحل حياتها (٥). ولذا وجب في استقرائنا للمدينة الإسلامية من الجيل الأول إمعان النظر باتجاه الماضي القريب (العربي ذاتيا ، والماضي الفارسي (٦) والهلنستي (٧)) ، أكثر من إمعانه بالاتجاه إلى المستقبل أي نحو الجهاز الكلاسيكي ، وقد أصبح هذا الجهاز يتماثل مع طول الزمن وإلى حدّ كبير بنمط المدينة العراقية القديمة (٨)).
__________________
(١) Massignon ,op.cit.,p.٤٥ ؛ البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ٧٠ وما بعدها ، يعرض وصفا غريبا لنهاية الزمان بالكوفة والعلامات البارزة المرافقة لذلك ، وهي عبارة عن تنبؤات توحي بالكوارث.
(٢) الفهرست ، تحقيق فلوجل Flu ? gel ، ص ٦٤ ـ ٧٧ ؛ ياقوت ، معجم الأدباء ، ج ٥ ص ١٠٦ ـ ١١٥. لقد اعتمدت كل التآليف الكلاسيكية في الأدب والطبقات ، المقارنة بين الكوفة والبصرة في مجال النحو الذي ارتبط كثيرا بفقه اللغة ، ولا سيما ابن الأنباري. أما عن المحدثين فيراجع جرحي زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربية ، القاهرة ، ١٩٢٤ ، ج ٢ ، ص ١٧٩ ـ ١٨٩ ؛ وأحمد أمين ، ضحى الإسلام ؛ Brockelmann, Geschichte ـ ـ ـ , sup. I pp. ٧٧١ ff. وخصّ المخزومي المدرسة النحوية بالكوفة بدراسة جدية عنوانها : مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ، بغداد ، ١٩٥٥.
(٣) انظر لاحقا ص ١٣٤ من هذا الكتاب.
(٤) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ؛ الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٧١ ، ٧٤ ، ٧٦ ؛ الطبري ، ج ٨ ، ص ٥٦١.
(٥) ابن جبير ، الرحلة ، بيروت ١٩٥٩ ، ص ١٨٧ وما بعدها ؛ ابن بطوطة ، الرحلة ، بيروت ١٩٦٠ ، ص ٢١٩ وما بعدها. وهناك معلومات عند المقدسي في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ص ١١٧.
(٦) انظر لاحقا ، ص ١٦٦ ـ ١٧٣.
(٧) انظر لاحقا ، ص ١٦٢ ـ ١٦٦.
(٨) H. Franckfort,» Town ـ Planning in Ancient Mesopotamia «, Town Planning Review, XXI) July ٠٥٩١ (; Sir Leonard Wooley, Excavations at Ur; a Record of Twelve years\' Work, Lon ـ don, ٤٥٩١; History of Mankind, I, pp. ٧١٤ ـ ٩٢٤; Leo Oppenheim, La Me ? sopotamie, Paris,. ٠٧٩١, pp. ٨٨ ـ ٥٥١. وقد ذهبت مرغريت روتن بعيدا جدا في المقارنة بين المدينة الاسلامية في العهد الوسيط والمدينة البابلية ، انظر : Marguerite Rutten, Babylone, Paris, ٨٤٩١, pp. ١٥ ـ ٥٥ راجع أيضا :. E. Wirth,» Die Orientalische Stadt ـ ـ ـ «, Saeculom ٦٢) ٥٧٩١ (, pp. ٥٤ ـ ٤٩. ونقدنا له لاحقا ، ص ١٤٤ ـ ١٤٦.