لا شك أن شخصية حاضرة ما ولا سيما اختياراتها الإيديولوجية تؤثر في بنية مجالها وأكثر من ذلك في رؤية هذا المجال ، وقد أجاد ماسينيون عرض التصور الشيعي اللاحق (القرن الرابع ه / العاشر م.) للكوفة (١). لكن تصور المدينة الشيعية المتميزة بطابعها الفارسي وذات الخصوصية الكبيرة ، لا يطابق في الجملة واقع القرن الأول والثاني من الهجرة ، حيث شاركت الكوفة بقسطها في التاريخ العربي الصميم وفي صميم مشاكل الامبراطورية. فكانت مسرحا لأعظم الحركات على اختلافها وكانت نقطة تجذر فيها الفاتحون العرب الأوائل ، وبوتقة لأسلمتهم.
عند ذلك تبرز على صعيد الجغرافيا التاريخية أربعة خطوط للبحث : قضية مدنية تهمّ تنظيم المجال الداخلي ، وقضية تعمير واستيطان ، وقضية بيئة ، وأخيرا قضية وظائف الكوفة.
من الواضح أن هذه المستويات تتشابك فيما بينها ، فيكون الفصل بينها مفتعلا.
إن تاريخ الكوفة غطته فعلا كتابات كثيرة (٢). كتب ماسينيون بحثا ثريا جاء طابعه طبوغرافيا أصلا ، وهو كذلك دون شك ، لكن الأمر يكون متيسرا بصورة غير لائقة لو استرجعنا هذا البحث على علاته وتوسعنا فيه لا غير ، كما فعل الجنابي (٣). أما التعمير فإنه يفترض دراسة علاقاته بالمجال وضبطا لقائمة القبائل ، وهو يطرح مشكلا سكنيا ، مشكل التعايش الإنساني ومشكل العلائق بالتنظيم العسكري الجبائي. وفي المقام الثالث يستدعي المحيط التفكير فيه من زاوية المواصلات والاقتصاد والإطار الطبيعي وأسماء المواضع المشكّلة لدائرة الكوفة ، والحركة المزدوجة التي تدفع الكوفة نحو السواد ونحو بلاد العرب على السواء. وأخيرا فإن قضية وظائف الكوفة العسكرية والسياسية والإدارية تثير من جديد القضايا السابقة لكنها تتشكل أساسا حول الروابط بالعالم الإيراني. هذا ويواجهنا عائق التحديد الزمني وكذلك العائق التوثيقي حيثما كان (٤).
__________________
(١) op.cit.,pp.٢٥ ,٤٥ ؛ راجع أيضا بشأن مفهوم المسجد المبارك ، والمسجد الملعون : ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، ص ١٧٣ ، وخاصة البراقي ، التاريخ ، ص ٤٤ وما بعدها.
(٢) باستثناء الدراسة المعروفة لماسينيون المنقولة نقلا سيئا إلى العربية ، ينبغي ذكر كتاب الجنابي وعنوانه تخطيط مدينة الكوفة عن المصادر التاريخية والأثرية ، بغداد ١٩٦٧ ، ١٩٧ صفحة ورسوم وخرائط كثيرة. وقد اهتم صالح العلي بمنطقة الكوفة : سومر ، عدد ١٩ ، ١٩٦٥ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٥٢ ، ومجلة كلية الآداب ، عدد ٥ ، ١٩٦٢ ، ص ١٧ ـ ٤٤. وهناك أعمال أخرى كثيرة عن الحياة الاقتصادية والثقافية : راجع بحثنا ، مادة «الكوفة» ، في.E.I. / ٢
(٣) امتاز عمل الجنابي باستعراض نتائج الحفريات الأثرية التي تمت في القصر وحواليه.
(٤) المصادر مشتتة وجزئية. أما بخصوص مصادر تاريخ الكوفة فيعود الرجوع بنفع كبير ، فضلا عن بحث ماسينيون المذكور آنفا ، إلى دراسة صالح العلي : «مصادر دراسة تاريخ الكوفة في القرون الاسلامية الأولى ، في مجلة