وعند الرومان ممّا عند اليونان. هنا ، لا هذه المساحة ولا الكوفة بمجملها حتى عهد المنصور (١٥٥ ه / ٧٧٢) لم تحاطا بأسوار ، على أن الجامع والقصر حصّنا في الفترة الأموية. لكن المرء يميل إلى أن يجد في الطقوسية التي واكبت نشأة الكوفة وفي الوظيفة الثلاثية للمركز وأخيرا في رمزية التفرقة بينه وبين المدينة الأهلية ، أقدم التصورات للنواة السياسية ـ الدينية التي عرفتها الإنسانية ولبقايا شكلية ملفتة للنظر.
لقد كان لمكّة مركزها وهو الحرم المحتوي على الكعبة. وكانت له حدود (الانصاب) لا يمكن خرقها بل أضيفت عليها صفة القداسة والتحريم وقد جدّدها عمر وثبتها في مكانها. ومن جهة أخرى الطقوسية التي حفّت بامتلاك موقع الكوفة (التنزيل) والتي تجسدت في تلاوة كلمات قدسية ذات طابع جاهلي ، نجدها منسوبة إلى النبي عندما حلّ بقباء وأصلها العربي واضح. لذا يمكن أن نعتبر أن العرب قبل الإسلام كانوا متملكين للأساليب الأساسية المعهودة بزمانهم التي بفضلها تؤسس المدن ، وهي مفهوم المجال المقدس ومفهوم المعبد (ـ المسجد) وعملية التخطيط والطقوسية الملائمة. إن هذه الأساليب العتيقة شاعت في كل العالم القديم. ولنضرب أمثلة عن مقدرة النماذج المدنية في التنقل والانبثاث من مناخ حضاري إلى آخر. لقد قيل إن العمارات ذات الطوابق من خاصيات النموذج الهلنستي بينما نجدها في بابل كما وصفها هيرودوتس ولربما استلف منها هذا الشكل المعماري ثم وقع استرجاعه من طرف الشرق. إن روما القديمة عرفت البوميريوم ـ pomerium وهو المجال المقدس الذي حجّر عليه البناء (١) ، أما الفوروم forum ـ المركزي فهو إلى حد بعيد مماثل للآغوراagora ـ التي تعتبر عنصرا معماريا منبثقا عن الحضارة اليونانية الآسيوية وعن مدرسة ميلي Milet بالتحديد (٢). ولا بدّ أن يكون النموذج الهلنستي قد أشاع البعض من مكوناته في الشرق القديم الخاضع للفرس آنذاك ، وكذلك فإن النموذج الروماني ، وهو الآخذ عن تقليده الذاتي العتيق وعن الاشكال الهلنستية في آن ، قد انبثّ في العالم الروماني وبث بطبيعة الحال هذه الأشكال (٣).
سيكون لنا رجوع إلى مشكلة التأثيرات على التصور الأولي للكوفة بمجملها ، لكن في خصوص المساحة المركزية الكوفية يبدو لنا أن صيغة معممة ومعمول بها قد وجدت في كل مكان للتأسيس الإرادي للمدينة ، وأنها تبتدىء بتحديد المجال المركزي العمومي (٤) ، سواء
__________________
(١) Ibid.,pp.٧٦٢.
(٢) Roland Martin, Recherches sur l\'agora grecque, Paris, ١٥٩١.
(٣) في خصوص التأثير اليوناني والرّوماني على الفرس في مجال المعمار ، انظر : Ghirshman, L\'Iran des origines a ?. l\'Islam, p. ٩٠٣.
(٤) Oppenheim ,pp.٦٤١ ـ ٧٤١ ;Mumford ,p.٧٦٢.