يأمر أمير جبيل بقتله في أيّة لحظة. ويذكر أنّه كان يقصد شاطئ البحر ليقضي الساعات هناك جالسا يندب حظّه. ويتّضح من خلال التقرير أنّ سبب جفاء الأمير الجبيليّ للرسول المصريّ كان عدم حمل هذا الأخير المال الكافي لدفع ثمن الخشب المطلوب ، وفي محاولة منه لاستمالة الأمير أرسل له الرسول جارية مصريّة مغنّية لترفّه عنه ، ثمّ بعث له بغلام يرجوه السماح له بالمواجهة ، وبعد كلّ هذه المحاولات الدبلوماسيّة الذليلة تعطّف الجبيليّ واستقبل المبعوث في عليّته القائمة على الميناء مباشرة فوق البحر ، ونافذتها تطلّ على مكاسر الموج ، وبادر المبعوث بتعال لافت إذ قال له : " إعلم أنّي لست بخادم لك ولا للذي أرسلك إليّ ، أنا إذا ناديت لبنان تتفتّح السماء وتتدحرج جذوع الأرز من جبال لبنان إلى هذا الشاطئ" ، وعبثا حاول المبعوث المصريّ تليين موقف الأمير الذي لم يوافق على تلبية طلبه إلّا بعد أن استلم كامل ثمن الخشب مالا وورق بردي. عندها أرسل الأمير الجبيليّ ثلاثمائة رجل معهم ثلاثمائة ثور لتأمين جذوع الأرز التي كان الفرعون يبغي بناء سفينة للإله" رع" بخشبها.
إستقلال وسط التحولات الإقليمية
من شأن الشكل الذي تعامل به حاكم جبيل مع المبعوث المصريّ أن يوحي بأنّ سلطة ذلك الحاكم كانت مطلقة ، وبأنّ النظام الذي كان قائما في جبيل كان ما يمكن تسميته بلغة اليوم بالتظام الرئاسيّ ، ولكنّ هذا الإستنتاج ليس حقيقيّا ، فإنّ طريقة الحكم في المدن الفينيقيّة ، وخاصّة جبيل ، كانت شوريّة على مرّ التاريخ ، فكان القاضي الأوّل ، هو نفسه الكاهن الأكبر ، وكان له اعتبار جدّ مميز لأنّه ذو حقّ إلهيّ ، بصفته متحدرا من سلالة الآلهة بحسب المعتقد ، ولكنّه لم يكن متفرّدا في حكمه ، فقد كان هنالك" مجلس شيوخ" ذكرته