النحو والمنظومات النحوية قبل الآثاري وبعده
ولد النحو العربي وهو يعتمد على أساسين هما : السماع والقياس. فالأصوات والألفاظ والأساليب المسموعة عن العرب مباشرة في بواديهم أو من الأعراب الوافدين إلى المدن والحواضر كانت موضع الثقة من النحويين واللغويين ثم هي موضع القياس لما لم يسمع من كلام العرب. فمنذ ابن أبي إسحاق وهو من أوائل النحويين ، وقد قيل فيه : إنه كان شديد التجريد للقياس (١) ، حتى تلامذة سيبويه كانت بوادي نجد والحجاز مفتوحة لعلماء العربية الذين كانوا يجمعونها ويروونها من أفواه ساكنيها ، ثم سوق المربد في البصرة الذي كان يرتاده الأعراب من مختلف المواطن للامتيار والبيع ، ثم الأعراب الذين كانوا يرتادون البصرة أو الكوفة للإقامة أو للتكسب باللغة ، كانوا مجالات سماع للنحويين واللغويين. فحين كان السماع للغة من العرب قائما ، كان القياس إلى جانبه لغويا أو هو غير بعيد عن اللغة في أساليبها المألوفة المستخدمة ، وكانت الأساليب المستخدمة المسموعة معيارا لدى النحويين في قبولهم وعدمه. أما غيرها من الأساليب غير الشائعة العامة فكانت تردّ إلى لهجات عربية أو هي تضعّف أو تخطّأ. وفي هذا للنحويين مواقف متفاوتة وخلافات كثيرة. والذي نريد أن نذكره هو أن النحويين منذ مرحلة النحو الأولى ـ بالرغم من الجهود المضنية التي بذلوها في جمع اللغة وتبويبها وتقعيدها ـ لم يضعوا حدودا واضحة تميز الفرق بين ما كان ضمن الفصيحة العامة وما كان من اللهجات مهما كانت قيمتها في الاستعمال والشيوع وإنما استخدموا اصطلاحات غير محدودة مثل المطرد والشائع والقليل والنادر والشاذ ..
وقد وضعوا قواعد العربية وفق مجال لغوي محدود من أساليب العربية هو الذي عدّ فصيحا قياسيا (٢) وحاولوا أن يفسروا ما استخدم من أساليب لهجية على
__________________
(١) نزهة الألباء ـ لأبي البركات بن الأنباري ٢٦. وابن أبي إسحاق توفي سنة ١١٧ ه.
(٢) انظر القبائل التي أخذت عنها اللغة في المزهر للسيوطي ١ / ٢١١.