قبول هذه القواعد ومن هنا حدث الخلط بين مستويات الأداء اللغوي ومن هنا أيضا كانت مقاييس النحويين وقواعدهم أحكاما صارمة على النصوص العربية ومن هنا أيضا كان الصراع بين التجديد والتقليد فالشعراء المبدعون يرتادون آفاق اللغة المجهولة أحيانا ويأتون بأساليب غير مألوفة أو استخدامات غير معروفة لدى معاصريهم ، وأحيانا يضطر هؤلاء الشعراء إلى بعض الاستخدامات اضطرارا بحكم صنعة الشعر فيهب في وجوههم المحافظون .. من أصحاب القواعد ويخطئونهم أو يجهلونهم ولربما اتهموهم بما لا يمت إلى العلم والأدب بشيء. هكذا خطّأ ابن أبي إسحاق الفرزدق (١) الشاعر العربي. ووقف الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء وغيرهما من اللغويين من شعر عديّ بن زيد وذي الرمة مواقف حادة (٢) وكذا كان موقف النحويين واللغويين من أبي نواس وأبي تمام وغيرهما من المبدعين.
ومما زاد الأمر صعوبة أن اللغويين وضعوا حدّا لعصر الاستشهاد وهو أوائل العصر العباسي وقيل : إن ابن هرمة الذي عاصر المنصور هو آخر من يستشهد به من الشعراء في العربية. فحدد مجال السماع بل أغلق ثم ألغي. ففي القرن الثالث كان النحويون يعتمدون على القياس اعتمادا كبيرا فالمازني والمبرد والزجاج وغيرهم من البصريين بخاصة كانوا يتشددون بالقياس الذي هو أساس لمنهجهم إضافة إلى الرواية التي أخذت مكان السماع وأصبحت أساسا آخر يعتمد عليه بدلا من السماع المباشر. وإذ ندخل في القرن الرابع نجد التفنن في القياس يتسع ورواية المسموعات على محدوديتها وضيقها السابق كما أخذ المنطق والقياس المنطقي يتسرب إلى جدل النحويين ومناظراتهم حتى نجد بعضهم يعجب من الآخر في إغرابه وتعقيده للمقاييس بالرغم من أنه قياسيّ أيضا كما كان أبو علي الفارسي مع الرماني النحوي إذ قال فيه : «إن كان النحو ما يقوله أبو الحسن الرماني فليس معنا منه شيء وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء» (٣) وكان الرماني يمزج المنطق بالنحو (٤) كما نجد التفنن بالتعليل فقد استخدم النحويون العلة المنطقية
__________________
(١) الموشح للمرزباني ١٥٦ ، نزهة الألباء ٢٧ ، ٢٨.
(٢) الموشح ١٠٢ .. ، ٣٧٠ ..
(٣) نزهة الألباء ٢٣٤.
(٤) السابق.