وعلة ذلك أنك اذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه ، وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه وذلك يقتضي ألا يشذ عنه شيء.
أما إن قدم النفي على أداة العموم لفظا ، كقول أبي الطيب :
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه |
|
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن (١) |
أو تقديرا بأن قدمت أداة العموم على الفعل المنفي وأعمل فيها ، كقولك : كل الدراهم لم آخذ ، توجه النفي الى الشمول خاصة دون أصل الفعل ، وأفاد الكلام نفي المجموع (سلب العموم) فيحتمل ثبوت البعض ، كما يحتمل نفي كل فرد ، يدل على ذلك الذوق والاستعمال ، وهذا الحكم أكثري ، وليس بكلي ، بدليل قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢) ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ)(٣) فَخُورٍ (٤) ، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)(٥). الى غير ذلك.
المبحث الثالث في تقديم المسند
يقدم المسند لأغراض ، منها :
١ ـ تخصيصه بالمسند إليه ، نحو : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦) ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٧) ، (لا فِيها غَوْلٌ)(٨) ،
__________________
(١) وفي رواية يشتهي بالياء ، والسفن بفتح فكسر ، أي ربان السفينة.
(٢) سورة البقرة الآية ٢٧٦.
(٣) يرى أستاذنا الامام الشيخ محمد عبده أن مثل هذا من عموم السلب لا من سلّب العموم حيث قال : قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب الى ما يفيد سلب العموم والسلب عام بحسب الحقيقة تعريضا بأن المخاطب شر هذا النوع فالمعنى في هذه الآية أن محبة الله لا تعم المختالين الفخورين حتى تشمل هؤلاء فلو تعلقت محبته بمختال فخور لم تتعلق بأولئك لأن مختالهم وفخورهم شر مختال وفخور ، وهكذا باقي الآي التي جاءت على النمط.
(٤) سورة لقمان الآية ١٨.
(٥) سورة القلم الآية ١٠.
(٦) دينكم مقصور على الاتصاف بلكم لا يتصف بلي وديني مقصور على الاتصاف بلي ، فهو من قصر الصفة على الموصوف (سورة الكافرون).
(٧) ملك السموات مقصور على الاتصاف بالله (سورة المائدة).
(٨) أي أن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي خمور الجنة لا يتجاوزه الى الاتصاف بفي خمور الدنيا ، وان اعتبر النفي في جانب المسند ، فالمعنى أن الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتجاوزه الى عدم الحصول في خمور الدنيا فهو قصر غير حقيقي.