فدلالة الحيوان على الجسم أوضح (١) من دلالة الإنسان عليه ، ودلالة الجدار على التراب أوضح من دلالة البيت عليه.
وفي هذا مجال لقائل : إذ الدلالة الوضعية ربما يعرض لها الوضوح والخفاء ، ألا ترى أنا نجد في أنفسنا ألفاظا محفوظة لدينا ، معلومة الوضع ، ومع ذلك يحضر لنا معنى بعضها بنفس الالتفات اليه ، لكثرة الممارسة ، أو لقرب العهد باستعماله في معناه ، أو لقرب العهد بعلم وضعه ، وبعضها لا يحضر معناه إلا بالمراجعة مرة بعد أخرى لطول العهد بعلم وضعه ولعدم تداوله.
أضف الى ذلك أن التركيب الذي فيه تعقيد لفظي لا يفهم معناه إلا بعد التأمل ، مع العلم بوضع جميع ألفاظه ، فليس ببعيد إذا أن تكون قابلة للوضوح والخفاء. وقد أجيب عن الأول بأن التوقف والمراجعة لطلب تذكر الوضع المنسي ، لا لخفاء الدلالة ، بدليل أنه عند ما نتذكر الوضع نعلم المعنى من غير توقف ، وعن الثاني بأن الهيئة مختلفة ، والكلام عند اتفاقها ، لأن لها دخلا في الفهم الوضعي.
أبواب الفن
اعلم أن اللفظ إن استعمل في معناه الموضوع له فحقيقة ، وإن استعمل في غيره ، لعلاقة مع قرينة ، فإما مانعة من إرادة المعنى الأصلي فمجاز ، وإما غير مانعة فكناية.
والمجاز إن كان لعلاقة المشابهة فاستعارة مفردا كان أو مركبا ، وإن كان لعلاقة غير المشابهة فإن كان مفردا سمي مجازا مرسلا ، وإن كان مركبا قيل له : مجاز مركب مرسل.
والاستعارة مبنية على التشبيه ، فوجب التعرض له ، فعلم من هذا وبما تقدم من أن الدلالة الوضعية لا تتفاوت وضوحا وخفاء على المشهور ، أن أبواب هذا الفن أربعة : التشبيه المجاز بقسميه ، الكناية ـ أما الحقيقة فإنما تذكر فيه ليتضح مقابلها ، وهو المجاز أشد الوضوح (وبضدها تتميز الأشياء) وأيضا فهي أصل المجاز ، وهو فرع لها تناسب ذكرها في الفن تبعا.
__________________
(١) لأن دلالة الحيوان عليه بلا واسطة ، بخلاف الثانية.