وهذه الكتب المدوّنة في هذا الباب التي نقلت منها ، ثم نقلت من دواوين العرب والمحدَثين وتواريخ أهل الأَدب والمحدّثين ، ومن أَفواه الرواة ، وتفاريق الكتب ، وما شاهدتُه في أَسفاري ، وحصَّلتُه في تَطْوافي ، أَضعاف ذلك ، والله الموفق إِن شاءَ الله.
فأَما الطبقة الأُولى ، فأَسماء الأَماكن في كتبهم مصحّفة مغيَّرة ، وفي حيَّز العدم مصيَّرة ، قد مسخها من نسخها.
وأَما الطبقة الثانية فإنها وإن وُجدت لها أُصول مضبوطة ، وبخطوط العلماء منوطة مربوطة ، فإنها غير مرتبة ، ولشفاء العليل غير مسببة ، لشدة الاختصار ، وعدم الضبط والانتشار ، لأَن قصدهم منها تصحيح الأَلفاظ ، لا الإِبانة عمَّا عدا ذلك من الأَغراض ، والبحث عما يعترض فيها من الأَعراض ، فاستَخَرتُ الله تعالى ، وجمعت ما شَتَّتُوه ، وأَضفت اليه ما أهملوه ، ورتَّبتُه على حروف المعجم ، ووضعته وضع أهل اللغة المحكم ، وأَبَنتُ عن كل حرف من الاسم : هل هو ساكن أو مفتوح أَو مضموم أَو مكسور ، وأَزَلتُ عنه عوارض الشُّبَه ، وجعلته تبرا بعد أن كان من الشّبه ، ثم أذكر اشتقاقه إن كان عربيّاً ، ومعناه إِن أَحَطْتُ به علما إن كان عجميا ، وفي أَيِّ إِقليم هو وأَيُّ شيءٍ طالعه ، وما المستولي عليه من الكواكب ، ومن بناه ، وأَيُّ بلد من المشهورات يجاوره ، وكم المسافة بينه وبين ما يقاربه ، وبما ذا اختص من الخصائص ، وما ذُكر فيه من العجائب ، وبعض من دُفن فيه من الأَعيان والصالحين والصحابة والتابعين ، ونُبَذاً مما قيل فيه من الأَشعار في الحنين إِلى الأَوطان ، الشاهدة على صحة ضبطه والإتقان ، وفي أَيِّ زمان فتَحهَ المسلمون وكيفية ذلك ، ومن كان أميره ، وهل فُتح صُلحاً أَو عَنوَة لتَعرف حُكمَه في الفيء والجزية ، ومن ملكه في أَيامنا هذه.
على أَنه ليس هذا الاشتراط بمطاوِعٍ لنا في جميع ما نورده ، ولا ممكن في قُدْرَة أَحد غيرنا ، وإِنما يجيءُ على هذا البُلْدان المشهورة ، والأُمهات المعمورة ، وربما ذُكر بعض هذه الشروط دون بعض على حَسْب ما أَدَّانا إليه الاجتهاد ، وملّكناه الطلب والارتياد.
واستَقصَيتُ لك الفوائد جُلّها أَو كلها ، ومَلّكْتك عَفواً صَفواً عَقْدَها وحَلّها ، حتى لقد ذَكرتُ أَشياء كثيرة تأْباها العقول ، وتَنفِر عنها طباع من له محصول ، لبُعدها عن العادات المأْلوفة ، وتنافُرها عن المشاهدات المعروفة ، وإِن كان لا يُستعظَم شيءٌ مع قُدرة الخالق وحِيَلِ المخلوق ، وأَنا مُرتاب بها نافرٌ عنها مُتَبَرِّىءٌ إِلى قارئها من صِحَّتها ، لأَنني كتبتها حِرصاً على إحراز الفوائد ، وطلباً لتحصيل القلائد منها والفرائد ، فإن كانت حقا فقد أَخذنا منها بنصيب المصيب ، وإِن كانت باطلاً فلها في الحق شِرك ونصيب ، لأَنني نَقَلتُها كما وجدتُها ، فأَنا صادق في إيرادها كما أَوردتُها ، لتعرف ما قيل في ذلك حقاً كان أَو باطلاً ، فإِنّ قائلاً لو قال : سمعتُ زيداً يكذب ، لأَحْبَبْت أَن تعرف كيفية كذبه.
وها أَئمة الحُفَّاظ الذين هم القُدْوة في كل زمن ، وعليهم الاعتماد في فرائض الشّرْع والسُّنَن ، لم يَشْتَرط أَكثرهم في مَسْنَده ، وهي أحاديث الرسول التي تَبْتَني عليها الأَحكام ، ويُفَرَّق بها بين الحلال والحرام ، إيرادَ الصحيح دون السقيم ، ونَفيَ المُعوَجِّ وإِثباتَ المستقيم ، ولم يُخرجِهْم ذلك عن أَن يُعَدُّوا في أَهل الصدق ،