بسمِ اللهِ الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الأَرضَ مِهاداً ، والجبالَ أَوتاداً ، وبَثَّ من ذلك نشوزاً ووهاداً ، وصَحارَى وبلاداً ، ثم فجَّر خِلال ذلك أَنهاراً ، وأَسال أَوديةً وبحاراً ، وهدَى عباده إِلى اتخاذ المساكن ، وإِحكام الأَبنية والمواطن ، فشيَّدوا البُنيان ، وعمَّروا البُلْدان ، ونحَتوا من الجبال بيوتاً ، واستنبطوا آباراً وقُلوتا ، وجعل حرصهم على تَشييد ما شيَّدوا ، وإحكام ما بَنَوا وعَمَّدُوا ، عبرة للغافلين ، وتبصرة للغابرين. فقال وهو أَصدق القائلين : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). أَحمَده على ما أَعطى وأَنعم ، وهدَى إِلى الرُّشد وأَلهمَ ، وبيَّن من السَّداد وأَفهمَ ، وصلى الله عليه خِيرته من أَنبيائه والمرسلين ، وصفوته من أَصفيائه والصالحين ، محمد المبعوث بالهدى والدين المبين ، المنعوت بِ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وعلى آله الكرام البررة ، وأصحابه المنتجبين الخيرة ، وسلّم تسليما.
أَما بعد ، فهذا كتاب في أَسماءِ البُلْدان ، والجبال ، والأودية ، والقيعان ، والقُرَى ، والمحالّ ، والأَوطان ، والبحار ، والأَنهار ، والغُدران ، والأصنام ، والأنداد ، والأَوثان. لم أَقصِدْ بتأْليفه ، وأَصمُدْ نفسي لتصنيفه ، لهواً ولا لعبا ، ولا رَغبة حثَّتني اليه ولا رَهْباً ، ولا حنينا استفزَّني إِلى وَطن ، ولا طرباً حَفَزَني إِلى ذي ودّ وَسَكَن. ولكن رأَيت التصدّي له واجِباً ، والانتدابَ له مع القدرة عليه فرضا لازبا ، وفّقني عليه الكتاب العزيز الكريم ، وهداني اليه النّبأُ العظيم ، وهو قوله عزّ وجل ، حين أراد أن يعرّف عباده آياته ومثلاته ، ويقيم الحجة عليهم في إِنزاله بهم أَلِيمَ نَقماته : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). فهذا تقريع لمن سار في بلاده ولم يعتبر ، ونظر إلى القرون الخالية فلم ينزجر ، وقال وهو أصدق القائلين : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أَي انظروا إلى ديارهم كيف درست ، وإلى آثارهم وأنوارهم كيف انطَمَسَت ، عقوبةً لهم على اطّراح أَوامره ، وارتكاب زواجره ، إلى غير ذلك من الآيات المحكمة ، والأَوامر والزواجر المبرَمة.
فالأَول توبيخ لسَبْق النهي عن المعصية شاهراً ، والثاني أَمر يقتضي الوجوب ظاهرا. فهذا من كتاب الله الذي لا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفه ، ولا يطرق عليه نقصٌ من إِنشائه وخَلقه ، وقد