مناقشة قول ابن القيّم (١)
وأمّا قول ابن القيّم : إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله ، فذلك أمر لا يطّلع عليه ، فإنّ عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح (٢). وإن أريد كثرة العلم فعائشة (٣) ،
__________________
كلام السبكي الكبير.
(١) ابن قيّم الجوزية ، ويطلق عليه اختصارا ابن القيّم ، هو محمّد بن أبي بكر الحنبلي الدمشقي ، ولد في دمشق سنة ٦٩١ ه ، وتوفي بها سنة ٧٥١ ه ، ودفن في سفح جبل قاسيون ، قال ابن حجر في الدرر الكامنة : غلب عليه حبّ ابن تيمية ، فكان لا يخرج عن أقواله ، وسجن معه ، ولم يطلق سراحه إلّا بعد أن توفّي ابن تيمية ، له مصنّفات منها :
زاد المعاد ، وأعلام الموقعين ، وتهذيب سنن أبي داود.
(٢) هذا الكلام وإن كان في حدّ نفسه صحيحا ، إلّا أنّه في المقام وفي أمثاله ليس صحيحا ، وذلك لأنّ الشارع المقدّس كشف لنا أنّ فاطمة أكثر الناس ثوابا بقوله : «إنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة» ، فهي أفضل نساء أهل الجنّة ، ولازمه أنّها الأفضل من حيث كثرة الثواب ، بل من حيث الكمالات ، بل ليس هناك من هو أكثر ثوابا وكمالا منها ، لأنّ التفاضل في الآخرة في الجنّة ودرجاتها إنّما هو بكثرة الثواب والعمل الصالح والاعتقادات الحقّة ، ولو لم تكن هي الأكثر والأوفر والأفضل لما وصفها الشارع بأنّها سيدة نساء أهل الجنّة ، ولوصف غيرها بذلك ، فلمّا لم يصف غيرها ، علمنا بحكم الشارع أنّها أكثر الناس ثوابا ، وأكثرهم عملا صالحا وهذا الكلام ينطبق على العلم أيضا ، باعتبار أنّ العلم كمال من الكمالات ، فهي سيدة النساء من هذه الجهة أيضا ، وهكذا بقية الكمالات.
(٣) اتّضح الجواب عنها بما تقدّم ، من أنّ «سيدة نساء أهل الجنّة» يقتضي أنّها سيدتهنّ في كلّ فضل وكمال ، كمّا وكيفا ، والعلم من الكمال ، بل هو أشرف الكمالات ، فلا بد أن تكون سيدة نساء أهل الجنّة حائزة على كلّ الكمالات ، أعلاها وأشرفها. فنصّ الشارع كاشف عن الأفضلية المطلقة من جميع الجهات.
ثمّ إنّه إن أراد بكثرة العلم كثرة السماع من النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقد اتّفق المؤرّخون على أنّ عائشة عاشت مع النبيّ صلىاللهعليهوآله تسع سنين ، وأمّا خديجة فقد عاشت مع النبيّ صلىاللهعليهوآله خمسا وعشرين سنة ، وعلى حدّ قول ابن عبد البرّ : أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر ، وهذا يقتضي أنّها أكثر سماعا من عائشة ، بل سمعت من النبيّ صلىاللهعليهوآله ضعفي ما سمعته عائشة ونصف ، فهي أكثر علما منها من هذه الجهة ، بل أكثر من ذلك : أنّ عائشة عاشت مع النبيّ صلىاللهعليهوآله تسع سنين مع تسع زوجات ، فكان لها يوم واحد من كلّ تسعة أيام! ومعناه : أنّها عاشت مع النبيّ سنة واحدة بحساب الأيام ، وعليه فخديجة سمعت من النبيّ صلىاللهعليهوآله خمسا وعشرين مرّة بقدر ما سمعته عائشة أو بقية زوجاته رضياللهعنهنّ.
وإن أراد بكثرة العلم لزوج النبيّ صلىاللهعليهوآله مدلول خبر «خذوا شطر دينكم عن الحميراء» أو «ثلثي دينكم» ففيه كلام. حيث قال العجلوني : «رأيت في الأجوبة على الاسئلة الطرابلسية لابن القيّم الجوزية : أنّ هذا الحديث